بقلم
د.
كريم
المفتي
٢٨
آب ٢٠١٥
غدا
ستشهد وسط بيروت تعبيرا جديدا للشارع
اللبناني تزداد فيه الحشود والمتظاهرين
من كل الأعمار والديانات والمناطق، محتجين
على السلوكية السياسية القائمة في البلد.
وفاجأت
حملة "طلعت
ريحتكم"
في
قدرتها على تعبئة الشباب والعائلات في
النزول الى الشارع، هذا الشارع الذي كان
قد تحول في السنوات الماضية الى ساحة
مواجهة (سلمية
كما مسلحة)
للأحزاب
اللبنانية، بعيدا عن منطق المواطنة.
فهل
تساهم حركات احتجاج اللاحزبيين في الشارع
الى بناء اركان المواطنة الفاقدة في لبنان
؟
استيقاظ
الشارع اللاحزبي
لعقود
كان يقال عن الرأي العام اللبناني انه
غائب، أن لا وجود له ولا نبض عنده ولا قدرة
له على التأثير في ظل التكلس الطائفي
والكماشة الاقطاعية للساحة العامة.
فلا
بد من التذكير كيف ان خرج جيل الحرب من
اجرامية النزاع ساعيا الى الطمأنينة
والأمن والسلام ولو على حساب المواطنة
والحرية والخدمات.
فالمواطنة
ابتلعها خطاب زعماء الطوائف، السياسيين
والدينيين منهم، مختبئين وراء مفهوم
"العيش
المشترك".
اما
الحرية فتعطلت بفعل الوجود الاعتباطي
السوري في لبنان الذي دعّمتها الماكينات
الحزبية اللبنانية القائمة.
وفي
ملف الخدمات، تآكلت الادارات العامة في
غياب اي مساعي جدية لتحديثها واصلاح
المؤسسات، فساد منطق المحاصصة واختلاس
الأموال العامة من دون ان يخجل المسؤولون
السياسيون من حالة تضارب المصالح التي
خدمت مصالحهم المادية على حساب الشأن
العام.
في
موازاة هذه المسارات، شددت العائلات
اللبنانية قدرتها الـ"هرقولية"
على
التأقلم مع أشد وأصعب الحالات المعيشية،
لاسيما في التعامل مع غياب توفير أبسط
الخدمات، أكانت في مسألة التيار الكهربائي
ومد المياه وفوضة الطرقات وغوغائية النقل
العام، كما التعاطي مع فساد ومتاهات
البيروقراطية لدى الادارات العامة وايجاد
السبل لصد الغلاء المعيشي.
فاُرهقت
الطبقات الوسطى والطبقات المحتاجة فيما
تحاول ابقاء رؤوسهم فوق امواج المتاعب
والمصائب المتعلقة بالحياة اليومية.
ورغم
انهاك الشارع اللبناني بهذه المسائل،
بقي جزء كبير منه يعيد مبايعة الطبقة
الحاكمة دوريا خلال الانتخابات النيابية
آملا ان يكافأ ببقايا الأرباح وان يحصل
على ميزات، ولو بسيطة، تساعده على ابقائه
على رتبته من السلم الاجتماعي.
وحين
أُخرج العامل السوري من لبنان في العام
٢٠٠٥، أعاد الشارع اللبناني ثقته بالأحزاب
المتواجدة التي غيرت معزوفتها المواقفية
ولحقت بها قوى قديمة/جديدة
باتت لها دورا في ادارة الحكم، مثل التيار
الوطني الحر والقوات اللبنانية.
وبعد
١٠ سنوات من الفشل للطبقة الحاكمة بأكملها،
سئم الشارع اللبناني من أداء الحكام، اذ
وصلت مؤخرا وتيرة فشلهم الى ادارة شأن
النفايات الصلبة.
ولم
يعد الشارع اللبناني مقتنعا بأعذار
الأحزاب التي عودت جمهورها باتهام أخصامها
حين الفشل، وأرغمته على الصبر، تحسبا
لنجاحات آتية واصلاحات صاخبة لم تنجز
يوما.
وفرت
عشر سنوات من التردي السياسي والسياساتي
ارضا خصبة للأتيان برسائل احتجاجية من
قبل أجيال متجددة.
فالشباب
المتظاهر اليوم لم يكن طرفا في عملية
المبايعة التي قاموا بها أهاليهم خلال
التحولات السياسية للعام ٢٠٠٥، واستطاعوا
ان يبلوروا هذا الرفض فيما استفادوا في
الوقت نفسه من دعم عائلاتهم.
ويشكل
هذا الدعم عاملا اساسيا لنجاح هذا الحراك
في الشارع، أي انه جمع مزيجا من جماهير
شبابية كما أطياف متزايدة من أهاليهم
المحافظين تقليديا الذين باركوا الشباب
بحراكهم واصطفوا الى جانبهم.
وتبرز
هذه الخطوة استعداد الأهالي بمخاطرة
ارتباطهم بالـ"اتفاق
القائم"
مع
الأحزاب والحكام عن طريق شبكات الزبائنية
العنكبوتية والتي لم تطل الجمهور الشبابي
الواقع خارج هذه الشبكات حتى ولو ترعرع
في اوساطها من دون ان تقع عليه اي مسؤولية
في ذلك.
فمكّنت
هذه العوامل بظهور الشارع اللاحزبي فيما
يحاول ان يتكتل لكي يضغط على القوى السياسية
في السلطة.
انتفاضة
المواطنة، وتحدي موازين القوى
يلحظ
ارباك المجموعات الشبابية، وعلى رأسها
منظمي حملة "طلعت
ريحتكم"
حين
يُطلب منهم تصنيف جهودهم، اذ يرفضون وصفها
بالحراك "السياسي".
ما
يدل على الـ"تروما"
العميق
في الذهنية اللبنانية، وهي عابرة للأجيال،
حول مسألة العلاقة بالعمل "السياسي"،
وكأن الأخير بات من حكر الأحزاب فقط.
فمن
الطبيعي اعتبار هذه المبادرات والمطالب
والنشاطات من عمق الميدان السياسي حسب
قاموس علم السياسة كما تندرج في سياق "حق
المشاركة في الحياة السياسية والمدنية"
لو
لجأنا الى الأدبيات القانونية التي تعرّف
عن الحريات العامة.
بطبيعة
الحال، مهدت المجموعات الشبابية الطريق
امام "انتفاضة
المواطنة"
حيث
تكمن السياسات العامة في صميم اهتمامات
ومطالب المتظاهرين، وضمت ضغوط لمساءلة
المسؤولين، أكانت موجهة ضد الادارة
الفاسدة لملف النفايات الصلبة أو في
محاسبة من سمح القوى الأمنية بفتح النار
على المتظاهرين يوم ٢٢ آب الماضي.
كما
يغيب العنصر الطائفي والمذهبي من الشعارات
المرفوعة في الشارع.
كما
تقع هذه الجهود في
السياق السياسي حيث تحاول هذه الحركة ان
تغير في موازين القوى في الحياة السياسية
وان تؤثر على عملية صنع القرار في حين فقد
النظام اللبناني قدرته على احترام الدستور
وادارة الشأن العام.
ومن
المعروف كيف يستطيع ضغط الشارع ان يفرض
تحولات قد تكون جذرية في حياة دولة ومجتمع،
كما رأيناه في تونس ومصر وليبيا وسورية
وأوكرانيا مؤخرا.
ولو
من الممكن المقاربة النظرية بين هذه
التجارب الا ان على العالِم الاجتماعي
والسياسي ان يؤكد على خصوصية كل واحدة
منها وقد اسفرت كل حالة عن نتائج مختلفة
عملا بعوامل داخلية وخارجية عديدة وخاصة
لكل بلد.
اما
"انتفاضة
المواطنة"
فما
مصيرها في ظل الخصوصيات اللبنانية والبنية
الاجتماعية الفسيفسائية في البلاد؟ في
الفترة الراهنة، اختصرت المواجهة بين
المتظاهرين والقوى الأمنية، ولم تطال
أطياف أخرى من المجتمع، الطائفي من جهة
والحزبي من جهة أخرى.
بل
على العكس، حيث أكد العديد من أصحاب السلطة
(عدا
عن محاولات الـ"قطف")،
كما كبار رجال الدين، على أحقية المطالب
وضرورة تلبيتها.
فنجح
الحراك الاحتجاجي في اختباره الأول حيث
تمكن من طرح مسائل "مواطنية"
متماشية
مع الذهنية اللبنانية العابرة للأحزاب
والطوائف والمناطق.
وفي
المرحلة ما بعد تظاهرة يوم السبت ٢٩ آب،
يكمن الاختبار الأكبر لهذه الحركة
الانتفاضية في تحويل كرة الضغط هذه الى
مخرجات فعلية في الميدان السياسي.
ما
يعني قدرة الحراك على تحقيق ما تقدم به
من مطالب، وبناء على ذلك، الاتفاق على
كيفية استخدام هذا الرأسمال السياسي
الجديد لطرح تصورات تصبح مفتوحة للنقاش
والحوار في جو من الديمقراطية والتشارك
الفعلي.
ولأن
الحراك غير مؤهل وغير راغب في ان يؤسس
تنظيمات سياسية جديدة تطرح نفسها كبديل
للحكم، فمن الأبواب التي قد تمدد لحياة
هذا الحراك قدرة الأخير على فرض منطق
التشاورات والاستشارات العلمية على
النظام الحاكم، وأقله اشراك قوى عقلية
وفنية بارزة لدى المجتمع ليؤثروا هم
الآخرون على موازين القوى.
في
هذا المجال، نجد العديد من الأدوات
والآليات المتاحة لتسهيل عملية التشاور
الديمقراطي، تفاديا للانقلابات واللجوء
الى العنف.
نشير
منها مثلا انشاء جسم قريب الى "حكومة
الظل"،
المكون من شخصيات نزيهة وخبيرة من شتى
القطاعات والأطياف لكي تطرح الحلول
التقنية وتفتح باب الاصلاحات الأساسية
في قضية تحديث البلاد على كافة الأصعدة
الحيوية.
وحين
يأتي موعد الإقرار بالمسائل بعد فترة
النقاش والتحاور، نجد في هذا الميدان
أيضا أساليب متوفرة على صعيد الحياة
السياسية لتثبيت مشروعية القرارات، مثل
اللجوء الى وسيلة الاستفتاء الانتخابي،
التي تنتمي الى أسمى الآليات في يد
المواطنين كونهم مصدر الشرعية والسلطات.
فتُطرح
المسائل بشكل مباشر وشفاف امام المواطنين
– وليس النواب وقياديي الأحزاب الذين
سبق وفشلوا في هذه الأمور – فيصوتون على
قواعد اللعبة السياسية التي يطمحون اليها،
بدءً من قانون الانتخاب وصولا الى التعديلات
الدستورية التي باتت ضرورية لحسن سير
البلاد الى بر الأمان والاستقرار./.