نـــــدوة "الثورة والانتقال الديمقراطي في الوطن العربي:نحو خطة طريق"
مركز دراسات الوحدة العربية
6 شباط / فبراير 2012، تونس – الجمهورية التونسية
(*) إن الآراء الواردة في هذه الدراسة تمثل وجهة نظر المؤلّف، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز دراسات الوحدة العربية.
(**) جميع الحقوق محفوظة. لا يجوز إعادة نشر هذه الدراسة، كلاً أو جزءاً، بدون موافقة تحريرية مسبّقة من مركز دراسات الوحدة العربية.
(***) تنشر الدراسة على هذه المدونة بموافقة المركز.
الدكتور كريم المفتي
أستاذ جامعي وباحث في العلوم السياسية
تتفق المراجع الأكاديمية على ثلاث موجات تمثل عملية الانتقال إلى الديمقراطية في العلاقات الدولية المعاصرة1: برزت الأولى في جنوبي أوروبا (البرتغال واليونان وإسبانيا)، ثم ضربت الموجة الثانية أمريكا اللاتينية في بلدان كالإكوادور والبيرو والتشيلي والأرجنتين والأورغواي. أما الموجة الثالثة فعادت إلى أوروبا من جديد، هذه المرة من وسطها وشرقها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فيما أدخلت المفاهيم الديمقراطية إلى حياتها السياسية في بولونيا، هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا (قبل فراق الكيانين التشيكي والسلوفاكي بشكل سلمي عام 1993)، ورومانيا. بذلك تكون معظم الدول الأوروبية قد انتقلت إلى محور الغرب (بما تمثله منظمتا الاتحاد الأوروبي والناتو) وقاموسها السياسي في مجال الحكم الصالح واحترام حقوق الإنسان، بما فيها منطقة البلقان، ولو بشكل متأخر، بسبب الحروب الدامية التي عصفت بها في التسعينيات.
مع اندلاع "شعلة الحرية" في المنطقة العربية، بدءاً بتونس في كانون الأول/ديسمبر 2010، أطيح حتى الآن بثلاثة أنظمة عربية استبدادية، وهي النظام البوليسي للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والنظام العسكري المصري للرئيس المعتقل حسني مبارك، وأخيرا وليس آخراً، نظام "الجماهيرية" الليبي لمرشد ثورتها العقيد المقتول معمّر القذافي. هذا، وقد تحرك الشارع في محاور عربية أخرى، كالبحرين والمغرب واليمن. وفي سورية، ما تزال المعارضة تتحدّى النظام في الشارع حتى أيامنا هذه.
نرى، إذاً، كيف أن التحولات الأخيرة في المنطقة العربية تطرح إشكاليات عدة من المفيد التوقف عندها، كمسألة البحث عن أنواع جديدة من الشرعية السياسية7، وصناعة حداثة سياسية ملائمة ومتطلبات النسيج الاجتماعي، كما نجاح تحدّي التعددية السياسية بعدما تحرّرت كافة الطاقات السياسية لدى المجتمعات الثلاثة المعنية، ومشاهدة امتحان الدورات الانتخابية، وهي الأولى من نوعها في تاريخ المغرب والمشرق المعاصر، فيما النتائج لم تعُد معروفة مسبقاً. وكان قد حلّل الباحث ميشال سورا كيف "ارتكزت عملية بناء الدولة الحديثة في العالم العربي على عصبية تفوّقت على غيرها"8، بمعنى آخر، كما يفسره غسان سلامة، لقد "بنيت تاريخياً دول-الأوطان العربية الحديثة عن طريق عملية تهميش عظيمة"9، على حساب مجموعات طائفية، مناطقية، عشائرية، واجتماعية، أبعدت من تشارك السلطة وامتيازاتها السياسية والاقتصادية. في هذا الإطار، نستطيع أن نستخرج ثلاثة استراتيجيات تمثل هذه التركيبة الاستبدادية للدول العربية في بعدها السياسي التقليدي: أولاً من حيث تقوية أجهزة النظام الرئيس - الملك لمواجهة المجتمع. ثانياً إنشاء طبقة من المستفيدين على الصعيد المالي والاقتصادي. ثالثاً وأخيرا، تعزيز آليات الرقابة العسكرية والبوليسية ضد الفئات الاجتماعية التي قد تشكّل بوادر معارضة ضد النظام. فربط القاموس السياسي العربي الاستبدادي ما بين مفهوم المساءلة أو المعارضة وعملية الخروج عن الدولة، التي باتت بمثابة جريمة الخيانة العظمى أو العمالة، ما أتاح للأنظمة الدكتاتورية إبقاء دولها في قبضة قانون الطوارئ أو أنواع شاسعة من الاضطهاد السياسي.
تختلف الآراء إزاء تحديد العنصر الزمني لتلك المرحلة المحورية؛ فهل تنتهي الأخيرة حين يتمّ تنظيم الانتخابات الحرّة الأولى أو حين يتمّ "إحياء عملية إعادة بناء المؤسسات السياسية"11، أم أنه يجب انتظار "هزيمة الأحزاب بما فيها أحزاب السلطة الجديدة في دورة انتخابية لاحقة"، لكي يصلح إعلان نهاية الفترة الانتقالية، كما يراه جزء آخر من المفكّرين الأكاديميين12؟
برزت هذه المدرسة النظرية في العلم السياسي في مطلع السبعينات ولكن حظيت اندفاعا ملموسا مع سقوط الأنظمة الدكتاتورية في أوروبا الجنوبية ولاسيما مع ما يعرف بالنموذج الإسباني13. فشكل نجاح التداول السياسي والسلمي في السلطة بعد وفاة فرانكو في اسبانيا وتكريس القيم الديمقراطية نموذجا لبعض الباحثين الذين رأوا في تلك التجربة عوامل قد تستخدم في بلدان استبدادية أخرى لكي تنجح بدورها في عمليتها الانتقالية نحو الديمقراطية. واللافت في النموذج الإسباني عنصران أساسيان، أولا طبيعته السلمية حين سمح الحزب الكتائبي الفاشي بتسليم المرحلة الانتقالية إلى ملك البلاد وتسليحه بصفة الحكم بين الفئات السياسية القائمة. وثانيا تمكنت القوى السياسية من التواصل وإدارة الأزمة السياسية من خلال التفاوض والحوار واللجوء إلى المؤسسات السياسية وتعديل الدستور وتنظيم العملية الانتخابية التي أطاحت بالحزب الحاكم وأدخلت حزب اتحاد الوسط الديمقراطي بزعامة ألفردو سواريز إلى أركان السلطة.
إلا أن عناصر هذه التجربة لا مثيل لها في عمليات الانتقال السياسي الأخرى أكانت في أوروبا أو في أمريكا اللاتينية، مما أدى إلى انحصار الحالة الإسبانية كنموذج قابل للتكرير والتقليد، فتوجهت المراجع الأكاديمية نحو مواقف أكثر حذرا إزاء القراءات الحتمية المتعلقة ببناء الأنظمة الديمقراطية واعتماد اقتصاد السوق الحرة ولذلك ابتعدت من مبدأ النماذج في دراسة عمليات الخروج من الحكم المطلق14 للتركيز على مقاربة الحالات من خلال عوامل موضوعية، سياسية واجتماعية.
بالتالي، حين الاطلاع على مختلف الحالات، لا بد من التركيز على عوامل يحسن مقاربتها من أجل فهم الديناميات التي أدت إلى إسقاط النظام وتركيبة حركات المعارضة، كما تحديد أهم المحطات السياسية في المرحلة الانتقالية، وكيفية إدارتها من قبل النخب الصاعدة.
في البداية، من المهم التدقيق في الأسباب التي دفعت الأنظمة إلى انهيار وإبراز المفارقات في ما بين المشاهد المطروحة. فإذا سقط الزعماء العرب الثلاثة من جراء ضغط مخيف من الشارع والفئات المهمّشة اجتماعيا واقتصاديا، عرفت المناطق الأخرى سيناريوهات مختلفة. ففي البرتغال واليونان، ساهمت الانهزامات العسكرية في إضعاف النظام العسكري (المواجهة بين اليونان والأتراك في قبرص عام 1974، ونجاح حركات مناهضة الاستعمار البرتغالي في أفريقيا)، وفي نهاية المطاف أفسح الأمر إلى تفكيكه من الداخل15، الأمر الذي لم يحصل في الوطن العربي بعد الهزائم المتتالية أمام الكيان الصهيوني، ولاسيما في مصر عام 1967، وسورية عام 1973. أما في إسبانيا، أسست لحظة وفاة الزعيم الفاشي فرانكو النافذة الملائمة لتحويل النظام وإعادة المؤسسة الملكية إلى الساحة السياسية لكي تلعب دوراً تحكيمياً بين الفصائل السياسية في المرحلة الانتقالية16. أما في أمريكا اللاتينية، فكان للحالة الاقتصادية المتدهورة وانحطاط حركة النمو والظروف المعيشية، دور رائد في مضاعفة تعبئة القوى المعارضة ضد الأنظمة العسكرية القائمة، كما في البلدان العربية الثلاثة، حيث كانت خلفية الأزمة الاقتصادية الحادة دافعاً أساسياً عند الشباب المهمّش وأفراد الطبقات الوسطى العاطلين عن العمل. فإلى جانب مطالبة السلطة بأبسط الحقوق والحريات واستعادة كرامة الناس، شكلت الثورات العربية الثلاث جبهة صارمة ضد الفساد الراسخ في كواليس النظام فأطيح بآل طرابلسي في تونس أو شبكات الزبائنية والمحاصصة حول أولاد الرؤساء في مصر وليبيا.
في الوقت نفسه، من الضروري التعرف إلى القوى الأساسية في سياق التحولات السياسية الجذرية (القوى والفئات الاجتماعية والسياسية والعسكرية)، وتحليل عناصر قديمة - جديدة فيها، وهي من جهة استخدام العنف والاضطهاد على يد رؤوس النظام ضد المتظاهرين، كما حصل في بعض الحالات في أوروبا الشرقية في بولونيا وتشكوسلوفاكيا وخاصة رومانيا. ومن جهة أخرى، نرى كيف ساعد إتقان التقنيات الحديثة، كشبكة المواصلات والإنترنت، في الثورات العربية على عملية التشبيك والتنسيق في مواجهة النظام فيما لم يحتاج المتظاهرون إلى الارتكاز على حركات معارضة منظمة كما الحال في السبعينات والثمانينات. في تلك الأوقات لم تخلو التكنولوجيا عن الساحة فكانت موجودة ولو بشكل مختلف من خلال التقاط موجات إذاعة "Radio Free Europe" التي كانت تبثّ مبادئ الحرية والديمقراطية في دول الكتلة السوفياتية، فتحولت منبراً ومصدر إلهام للنخب المعارضة في بلدان وسط وشرق أوروبا. كما سندرس مجرى الفترات الانتقالية وسبل إدارتها بعد سقوط رموز النظام وطرق إدارة المرحلة الجديدة (انتخابات جديدة وتعديلات دستورية ومؤسساتية)، وبالتالي من الضروري التطرق إلى معالمها وتأثيراتها الداخلية، كما الخارجية. فعلى سبيل المثال، أسهم انهيار جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989 في تقوية الحركات المناهضة للاستبداد السوفياتي حين حصلت ثورات تشيكوسلوفاكيا ورومانيا، ما أدى إلى شكل من أشكال ألعاب الدومينو المتساقطة في المنطقة، كما هي الحال في الوطن العربي منذ مطلع العام 2011.
أ- دينامية مواجهة النظام المطلق
في حين انطلقت أصوات المعارضة في بولونيا من رحم النقابات خاصة نقابة "التضامن" (Solidarnosc) الذي تأسس عام 1980 فضلا لجهود ليخ واليزا والتي نجحت في استقطاب ثلث القوى العاملة في البلاد أي ما يقارب 9.5 مليون شخص وتنظيم إضرابات واسعة النطاق في بولونيا، لحقت النقابات التونسية (وأكبرها الــUGTT) والمصرية (ونذكر هنا بدور نقابة المحامين المصريين) بحركة الشارع وثورة الساحات وتحررت من الهرمية السياسية إزاء الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس والحزب الوطني الديمقراطي في مصر).
وبالتالي، خلافا للعديد من الحالات الماضية في العالم، إن حركات المعارضة في الربيع العربي لم تأت نتيجة عملا تنظيميا كما حصل في معظم الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية حيث تغلب نشاط تيارات محافظة (في اليونان، اسبانيا، البرتغال وهنغاريا) أو يسارية (مثل بولونيا وشيلي) أو تجمعات شبابية (مثل هنغاريا وصربيا) على الاستبدادية، بل اجتمعت في الساحات فئات مختلفة وغير منظمة من المجتمع التي أقدمت على ممارسة شكل من أشكال العصيان المدني من دون اللجوء إلى العنف كما الحال في معظم الحالات في أوروبا الجنوبية والشرقية، باستثناء ليبيا التي أخذت منطق المواجهة إلى مستوى أبعد مما حصل في الثورة الرومانية فخاضت حربا داخلية مبنية على المفهوم التقليدي من حيث السيطرة على أرض الوطن وعاصمتها.
وردا على حركات العصيان في الشارع، أطلق أركان النظام القمعي في أوروبا موجات اضطهاد وان كانت بدرجات متفاوتة. في بولونيا أعلن العماد جاروزلسكي حالة الطوارئ في كانون الأول 1981 وتم اعتقال عدد من أركان النقابة (Solidarnosc) وفي رومانيا واجه الرئيس شوشسكو المتظاهرين بالسلاح كما حصل في البلدان العربية. اما في هنغاريا وبلغاريا وتشكوسلوفاكيا التي عانت من القمع العسكري في أكثر من مناسبة في ماضيها القريب، استفاد الشارع المعارض من ظاهرة الثورات المناهضة للاتحاد السوفياتي وانفتاح الرئيس غورباتشف فحققت الحركات أهدافها الانقلابية كلعبة الدومينو من دون أن تلجأ الأنظمة إلى خيارات عسكرية. وتسارعت التطورات السياسية في أوروبا الشرقية حين هدّم جدار برلين في تشرين الثاني 1989 وتمكنت حركات المعارضة في هذه الدول من الاندماج في العملية السياسية عن طريق الانتخابات التي أبعدت في كل الحالات (باستثناء رومانيا) الحزب الحاكم كما تم تعديل الدستور وأنيط بالحريات العامة وأهم الحقوق المدنية والسياسية كما الاقتصادية والاجتماعية. وكانت بولونيا، بفضل نقابة (Solidarnosc) والقوى الداعمة لها كالكنيسة الكاثوليكية، الدولة الأولى في أوروبا الشرقية التي عانقت المسار الديمقراطي مع انعقاد أول انتخابات حرة في 1989 التي أطاحت بالنظام الشيوعي وأسست خلفا له الجمهورية البولونية الثالثة.
ب- البحث عن الشرعية السياسية: تحديات المرحلة ما بعد سقوط الدكتاتورية
دخلت البلدان العربية الثلاث المتحررة مسار الإصلاحات السياسية، فأفرج عن المعتقلين السياسيين ورفع الحظر عن الأحزاب والتيارات السياسية كافة سامحا لها بالعمل في إطار تكريس مفهوم التعددية السياسية وأزيلت المجالس النيابية الفاقدة لشرعيتها. وانطلاقا من هذا النهج، انعقدت في تونس انتخابات لمجلس تأسيسي مهامه الأساسية وضع دستور جديد في محاولة لإعادة تفعيل عقد اجتماعي-سياسي جديد يتلاءم مع هموم المجتمع التونسي. وفي مصر أيضا تم اللجوء إلى العملية الانتخابية من أجل تجديد الطبقة السياسية والأمر عينه مقرر في ليبيا في حزيران/يونيو 2012.
في الحقيقة، تخوض القوى السياسية المتحررة في هذه البلدان الثلاث معركةً على مستويين: الأول فيما بينها في حين أن تحررها من أية قيود سلطوية فتحت باب التنافس على السلطة والنفوذ لدى المؤسسات السياسية (وقد برز تقدّم الأحزاب الإسلامية لحد الآن). ويتمحور المستوى الثاني حول طريقة التعاطي مع القوى وشخصيات التي كانت تابعة للنظام السابق. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا تخلوا الأمثلة فيما يتعلق بانخراط فعاليات سياسية أو عسكرية من عهد الدكتاتورية كحل وسط ومؤقت في عملية الانتقال السلمي نحو الديمقراطية. ففي اسبانيا عيّن الملك خوان كارلوس أدولفو سواريز، العضو الفاعل في الحركة الوطنية وهو الحزب الحاكم الفاشي في البلاد، رئيسا للحكومة عام 1976 فنجح الأخير في التفاوض مع قوى المعارضة من اجل إيجاد صيغة للانتقال نحو نظام ديمقراطي. وفي البرتغال أطيح الحكم العسكري، وهو أطول نظام استبدادي حكم في أوروبا (48 عاما)، على يد ضباط من المؤسسة العسكرية عينها الذين أطلقوا من خلال ثورة 25 نيسان عملية الانتقال نحو الديمقراطية. وكذلك الحال في تجربة اليونان حين تم الخلص من نظام العقداء في 25 تشرين الثاني 1973 وتم توقيف الرئيس بابادوبولوس على يد مجموعة من الضباط اليونانيين الذين وضعوا البلاد على سكة العبور نحو نظام ديمقراطي ابتداء من العام 1974. وفي رومانيا، وصل إليان إلييسكو، الشيوعي المقرب سابقا من الرئيس شوشسكو، إلى رئاسة البلاد في أيار 1990 جراء ثورة دامية قضت على أكثر من ألف ومائة متظاهر على يد النظام الدكتاتوري إلى حين تخلى الجيش عن زعيمها.
أما في باقي دول أوروبا الشرقية وثوراتها ابتداء من العام 1988-1989، لم يكن هنالك مكانا لرموز السلطة الشيوعية الحاكمة التي أزيلت من جراء العمليات الانتخابية وقدوم قوى سياسية منظّمة إلى السلطة (معظمها اشتراكية باستثناء هنغاريا). فأصبح ليخ واليزا أول رئيسا لبولونيا في عهدها الديمقراطي كما المعارض فاكلاف هافيل في تشكوسلوفاكيا؛ وفي هنغاريا صعد المعارض التاريخي جوزف أنتال إلى منصب رئاسة الحكومة بعد فوز تحالفه (الجبهة الهنغارية الديمقراطية) الانتخابات عام 1990.
في البلدان العربية اذا، بدأت المعركة من أجل إيجاد شرعية سياسية جديدة، فيراقب الباحث ماهية المؤشرات أو الشروط لنجاح المرحلة الانتقالية نحو نظام أكثر انفتاحاً ومبنياً على قواعد ديمقراطية كما يصنعا الحكام الجدد، من خلال رصد أفكار الفئات النخبية التي برزت في أعقاب سقوط هذه الأنظمة. فما هي الأيديولوجيات أو الخيارات التي تتنافس في الحالات العربية الحديثة في ظلّ المعارك الانتخابية الراهنة والقادمة؟ وما هي النماذج التي ستستلهم منها النخب الصاعدة في هذه البلدان؟ وما هو مدى تأثير نموذج "الأردوغانية" باسم رئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان الذي زاوج الديمقراطية التركية مع نوع من أنواع الإسلام السياسي؟ وهل تنجح تلك المجتمعات المحرّرة اليوم في تأسيس نظام منفتح، عادل ومتلائم مع مفهوم التعددية السياسية والطائفية، كما قيمها الاجتماعية والتقليدية؟
قد يكون من المبكر إعطاء إجابات نهائية لهذه التساؤلات في حين أن المراحل الانتقالية ما زالت في بدايتها على الصعيد العربي وما زالت تحاول النخب الصاعدة تحديد سياسة متجانسة حيال مناصري النظام السابق. فرأينا في مصر مثلا كيف أن عاد متظاهرو ساحة التحرير بمناسبة أي تطور سياسي كان لصالح رموز النظام المخلوع، في الوقت الذي فتح خط التحاور والتفاوض مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من أجل مناقشة مسألة دور ووضعية هذه المؤسسة في التركيبة السياسية ما بعد ثورة 25 يناير. وعلى هذا الصعيد سبق وأعلن المجلس عن رغبته في تسليم زمام السلطة إلى الهيئات السياسية المدنية في 30 حزيران/يونيو المقبل. كما شهدنا اعتراضات شبيهة في تونس حين عارض الشارع إلى جانب النقابات الحكومة الانتقالية الأولى التي كانت تحوي على عدد من وزراء سابقين للرئيس بن علي. وهنا يكمن أول تحدي حقيقي للأنظمة المتحررة: ماذا نفعل بمناصري "الأمنوقراطية" ؟ هل تسلك تلك الدول مسار الثورات السابقة التي قررت على تسويات معينة ومحددة مع النظام المخلوع أم أنها سترفض أي عملية توافقية لتفضل أسلوب تصفية الحسابات بواسطة أدوات السلطة ؟ وماذا عن دور الجيش؟ إذا بات السؤال مطروحا إذا ما ستتابع مصر وتونس وليبيا أسلوب دول أوروبا الجنوبية وأميركا اللاتينية وبعض دول أوروبا الشرقية التي اعتزلت فيها المؤسسة العسكرية من العمل السياسي في أعقاب الثورة.
ت- إيجاد سياق صالح من أجل تكريس المفاهيم الديمقراطية في العالم العربي
حين دراسة العناصر التي أدت إلى نجاح العملية الديمقراطية عن كثب في الموجات السابقة في العالم، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة نقاط لا تخلو منها صفة الأهمية. الأولى هي ابتعاد الأنظمة عن أي شكل من أشكال عسكرة السلطة. نرى بالتالي في جميع الدول التي خضعت لتجربة الثورات الديمقراطية أن لا مكانة للمؤسسة العسكرية في السلطة (على الأقل مباشرة) التي سلمت على مراحل مختلفة إلى المدنيين. أما العنصرين الآخرين فهما مرتبطان بمسار إقليمي داعم للمفاهيم الديمقراطية والحريات كما الاستقرار على الساحة الإستراتيجية وأعني هنا عملية الاندماج المتاحة إلى مؤسسات إقليمية كالناتو والاتحاد الأوروبي أو منظمة الدول الأميركية. فقد ساعدت موجات الاندماج لدى الاتحاد الأوروبي بدء من إسبانيا عام 1981 وصولا إلى بلغاريا ورومانيا عام 2007 على تكريس الممارسات الديمقراطية وتأمين التداول في السلطة وباتت اليوم منارة لدول البلقان وجنوب شرق أوروبا المتأهبة أهب الاستعداد من أجل الالتحاق بالنادي الأوروبي كما الناتو. ويذكر المشهدان النمساوي عام 1999 والهنغاري مؤخرا عن الإجراءات الصارمة التي قد تُتّخذ ضد دولة من قبل الأعضاء الآخرين إذا ما خرجت عن مسار الحريات وحقوق الإنسان. كما لدى الاتحاد الأوروبي ومنظمة الدول الأميركية محكمة مخصصة لصون حقوق الإنسان وهي مفتوحة لكل مواطن كاد يظلم على يد حكومة بلده.
في المقابل، لا يوجد على الصعيد العربي مسار مؤسساتي بهذا المقدار يساهم في ضمانة استمرارية الإصلاحات والعمل على إزالة كافة عناصر الاستبداد رويدا رويدا وصون كرامة المواطنين العرب. فجامعة الدول العربية غير قادرة اليوم على لعب هكذا دور تأسيسي ومحوري وأمامها تحدي إصلاح البيت العربي كمنظمة دولية إقليمية من أجل تكوين معلم ومنارة لأعضائها لكي تعتنق الدول العربية القيم الديمقراطية وتأمين حاجات المواطنين العرب.
1 يختلف تحليل صاموئيل هانتنغتون الذي يتحدث هو الآخر عن ثلاث موجات، إلا أنه يبدأ بها في نهاية القرن التاسع عشر مع التحولات الديمقراطية في أوروبا الغربية، ثم المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية في ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فالموجة الثالثة التي دامت حتى النصف الثاني من القرن الماضي.
مركز دراسات الوحدة العربية
6 شباط / فبراير 2012، تونس – الجمهورية التونسية
(*) إن الآراء الواردة في هذه الدراسة تمثل وجهة نظر المؤلّف، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مركز دراسات الوحدة العربية.
(**) جميع الحقوق محفوظة. لا يجوز إعادة نشر هذه الدراسة، كلاً أو جزءاً، بدون موافقة تحريرية مسبّقة من مركز دراسات الوحدة العربية.
(***) تنشر الدراسة على هذه المدونة بموافقة المركز.
الدكتور كريم المفتي
أستاذ جامعي وباحث في العلوم السياسية
تتفق المراجع الأكاديمية على ثلاث موجات تمثل عملية الانتقال إلى الديمقراطية في العلاقات الدولية المعاصرة1: برزت الأولى في جنوبي أوروبا (البرتغال واليونان وإسبانيا)، ثم ضربت الموجة الثانية أمريكا اللاتينية في بلدان كالإكوادور والبيرو والتشيلي والأرجنتين والأورغواي. أما الموجة الثالثة فعادت إلى أوروبا من جديد، هذه المرة من وسطها وشرقها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فيما أدخلت المفاهيم الديمقراطية إلى حياتها السياسية في بولونيا، هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا (قبل فراق الكيانين التشيكي والسلوفاكي بشكل سلمي عام 1993)، ورومانيا. بذلك تكون معظم الدول الأوروبية قد انتقلت إلى محور الغرب (بما تمثله منظمتا الاتحاد الأوروبي والناتو) وقاموسها السياسي في مجال الحكم الصالح واحترام حقوق الإنسان، بما فيها منطقة البلقان، ولو بشكل متأخر، بسبب الحروب الدامية التي عصفت بها في التسعينيات.
مع اندلاع "شعلة الحرية" في المنطقة العربية، بدءاً بتونس في كانون الأول/ديسمبر 2010، أطيح حتى الآن بثلاثة أنظمة عربية استبدادية، وهي النظام البوليسي للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والنظام العسكري المصري للرئيس المعتقل حسني مبارك، وأخيرا وليس آخراً، نظام "الجماهيرية" الليبي لمرشد ثورتها العقيد المقتول معمّر القذافي. هذا، وقد تحرك الشارع في محاور عربية أخرى، كالبحرين والمغرب واليمن. وفي سورية، ما تزال المعارضة تتحدّى النظام في الشارع حتى أيامنا هذه.
أولاً: الخروج من "حالة الاستثناء العربي"
تطرح فترة "الربيع العربي" هذه تساؤلا أساسياً: هل تمثل هذه الأحداث موجة رابعة في عملية الانتقال إلى أنظمة أكثر ديمقراطيةً؟ هل أتى دور الوطن العربي ليتنشّق حصّته من الديمقراطية في نظرة حتمية إلى التطورات التاريخية العالمية؟ أي أن ما من هروب من شكل من أشكال "نهاية التاريخ"، كما عرضه الكاتب فرنسيس فوكوياما2، من خلال عدم الإفلات من روحية الأنظمة السياسية، كما وضعها الفكر السياسي الغربي في التاريخ المعاصر؟ هذا، وكان الأكاديميون قد بحثوا إشكالية الأنظمة العربية من ناحية "حالة الاستثناء" 3(L’Exceptionnalisme arabe) التي كانت منغمسة فيه لعقود وعقود، حتى إن بعض المفكرين بدأوا يتساءلون إذا ما كان العالم قد شهد "نهاية اللحظة الديمقراطية"4 في ظلّ "مقاومة [الدول العربية] ضد عملية التحرر السياسي واحترام حقوق الإنسان"؟5، فنتذكر سؤال غسان سلامة منذ نحو 20 عاماً: "أين هم الديمقراطيون العرب؟"6. وهنا فتحت الثورات العربية آفاقاً جديدة من حيث إمكانية المنطقة العربية الخروج من مستنقع الاستبداد والتخلّص من ظاهرة "الجملوكيات" (أي قيام كيانات تعانق الملكية في ثياب الجمهورية).نرى، إذاً، كيف أن التحولات الأخيرة في المنطقة العربية تطرح إشكاليات عدة من المفيد التوقف عندها، كمسألة البحث عن أنواع جديدة من الشرعية السياسية7، وصناعة حداثة سياسية ملائمة ومتطلبات النسيج الاجتماعي، كما نجاح تحدّي التعددية السياسية بعدما تحرّرت كافة الطاقات السياسية لدى المجتمعات الثلاثة المعنية، ومشاهدة امتحان الدورات الانتخابية، وهي الأولى من نوعها في تاريخ المغرب والمشرق المعاصر، فيما النتائج لم تعُد معروفة مسبقاً. وكان قد حلّل الباحث ميشال سورا كيف "ارتكزت عملية بناء الدولة الحديثة في العالم العربي على عصبية تفوّقت على غيرها"8، بمعنى آخر، كما يفسره غسان سلامة، لقد "بنيت تاريخياً دول-الأوطان العربية الحديثة عن طريق عملية تهميش عظيمة"9، على حساب مجموعات طائفية، مناطقية، عشائرية، واجتماعية، أبعدت من تشارك السلطة وامتيازاتها السياسية والاقتصادية. في هذا الإطار، نستطيع أن نستخرج ثلاثة استراتيجيات تمثل هذه التركيبة الاستبدادية للدول العربية في بعدها السياسي التقليدي: أولاً من حيث تقوية أجهزة النظام الرئيس - الملك لمواجهة المجتمع. ثانياً إنشاء طبقة من المستفيدين على الصعيد المالي والاقتصادي. ثالثاً وأخيرا، تعزيز آليات الرقابة العسكرية والبوليسية ضد الفئات الاجتماعية التي قد تشكّل بوادر معارضة ضد النظام. فربط القاموس السياسي العربي الاستبدادي ما بين مفهوم المساءلة أو المعارضة وعملية الخروج عن الدولة، التي باتت بمثابة جريمة الخيانة العظمى أو العمالة، ما أتاح للأنظمة الدكتاتورية إبقاء دولها في قبضة قانون الطوارئ أو أنواع شاسعة من الاضطهاد السياسي.
ثانياً: عوامل انهيار الأنظمة وتحدّي العبور إلى الديمقراطية
أما اليوم، بوجود ثلاثة دول عربية (إلى حدّ الآن) دخلت في نفق المرحلة الانتقالية، من الجدير التعمّق في العوامل الأساسية التي أدت بالدول الفاشية والاستبدادية في أوروبا وأمريكا اللاتينية إلى نقطة الفصل نحو نظام الحكم الصالح، ولاسيما محاولة إبراز كيفية إدارة هذه المرحلة الانتقالية بتحليل مقارن مع هذه الدول مبني على منهجية دراسة عمليات الانتقال إلى الديمقراطية، أو "علم المراحل الانتقالية" (“Transitologie”)، كما أصبحت مألوفة في العلم السياسي10.تختلف الآراء إزاء تحديد العنصر الزمني لتلك المرحلة المحورية؛ فهل تنتهي الأخيرة حين يتمّ تنظيم الانتخابات الحرّة الأولى أو حين يتمّ "إحياء عملية إعادة بناء المؤسسات السياسية"11، أم أنه يجب انتظار "هزيمة الأحزاب بما فيها أحزاب السلطة الجديدة في دورة انتخابية لاحقة"، لكي يصلح إعلان نهاية الفترة الانتقالية، كما يراه جزء آخر من المفكّرين الأكاديميين12؟
برزت هذه المدرسة النظرية في العلم السياسي في مطلع السبعينات ولكن حظيت اندفاعا ملموسا مع سقوط الأنظمة الدكتاتورية في أوروبا الجنوبية ولاسيما مع ما يعرف بالنموذج الإسباني13. فشكل نجاح التداول السياسي والسلمي في السلطة بعد وفاة فرانكو في اسبانيا وتكريس القيم الديمقراطية نموذجا لبعض الباحثين الذين رأوا في تلك التجربة عوامل قد تستخدم في بلدان استبدادية أخرى لكي تنجح بدورها في عمليتها الانتقالية نحو الديمقراطية. واللافت في النموذج الإسباني عنصران أساسيان، أولا طبيعته السلمية حين سمح الحزب الكتائبي الفاشي بتسليم المرحلة الانتقالية إلى ملك البلاد وتسليحه بصفة الحكم بين الفئات السياسية القائمة. وثانيا تمكنت القوى السياسية من التواصل وإدارة الأزمة السياسية من خلال التفاوض والحوار واللجوء إلى المؤسسات السياسية وتعديل الدستور وتنظيم العملية الانتخابية التي أطاحت بالحزب الحاكم وأدخلت حزب اتحاد الوسط الديمقراطي بزعامة ألفردو سواريز إلى أركان السلطة.
إلا أن عناصر هذه التجربة لا مثيل لها في عمليات الانتقال السياسي الأخرى أكانت في أوروبا أو في أمريكا اللاتينية، مما أدى إلى انحصار الحالة الإسبانية كنموذج قابل للتكرير والتقليد، فتوجهت المراجع الأكاديمية نحو مواقف أكثر حذرا إزاء القراءات الحتمية المتعلقة ببناء الأنظمة الديمقراطية واعتماد اقتصاد السوق الحرة ولذلك ابتعدت من مبدأ النماذج في دراسة عمليات الخروج من الحكم المطلق14 للتركيز على مقاربة الحالات من خلال عوامل موضوعية، سياسية واجتماعية.
بالتالي، حين الاطلاع على مختلف الحالات، لا بد من التركيز على عوامل يحسن مقاربتها من أجل فهم الديناميات التي أدت إلى إسقاط النظام وتركيبة حركات المعارضة، كما تحديد أهم المحطات السياسية في المرحلة الانتقالية، وكيفية إدارتها من قبل النخب الصاعدة.
في البداية، من المهم التدقيق في الأسباب التي دفعت الأنظمة إلى انهيار وإبراز المفارقات في ما بين المشاهد المطروحة. فإذا سقط الزعماء العرب الثلاثة من جراء ضغط مخيف من الشارع والفئات المهمّشة اجتماعيا واقتصاديا، عرفت المناطق الأخرى سيناريوهات مختلفة. ففي البرتغال واليونان، ساهمت الانهزامات العسكرية في إضعاف النظام العسكري (المواجهة بين اليونان والأتراك في قبرص عام 1974، ونجاح حركات مناهضة الاستعمار البرتغالي في أفريقيا)، وفي نهاية المطاف أفسح الأمر إلى تفكيكه من الداخل15، الأمر الذي لم يحصل في الوطن العربي بعد الهزائم المتتالية أمام الكيان الصهيوني، ولاسيما في مصر عام 1967، وسورية عام 1973. أما في إسبانيا، أسست لحظة وفاة الزعيم الفاشي فرانكو النافذة الملائمة لتحويل النظام وإعادة المؤسسة الملكية إلى الساحة السياسية لكي تلعب دوراً تحكيمياً بين الفصائل السياسية في المرحلة الانتقالية16. أما في أمريكا اللاتينية، فكان للحالة الاقتصادية المتدهورة وانحطاط حركة النمو والظروف المعيشية، دور رائد في مضاعفة تعبئة القوى المعارضة ضد الأنظمة العسكرية القائمة، كما في البلدان العربية الثلاثة، حيث كانت خلفية الأزمة الاقتصادية الحادة دافعاً أساسياً عند الشباب المهمّش وأفراد الطبقات الوسطى العاطلين عن العمل. فإلى جانب مطالبة السلطة بأبسط الحقوق والحريات واستعادة كرامة الناس، شكلت الثورات العربية الثلاث جبهة صارمة ضد الفساد الراسخ في كواليس النظام فأطيح بآل طرابلسي في تونس أو شبكات الزبائنية والمحاصصة حول أولاد الرؤساء في مصر وليبيا.
في الوقت نفسه، من الضروري التعرف إلى القوى الأساسية في سياق التحولات السياسية الجذرية (القوى والفئات الاجتماعية والسياسية والعسكرية)، وتحليل عناصر قديمة - جديدة فيها، وهي من جهة استخدام العنف والاضطهاد على يد رؤوس النظام ضد المتظاهرين، كما حصل في بعض الحالات في أوروبا الشرقية في بولونيا وتشكوسلوفاكيا وخاصة رومانيا. ومن جهة أخرى، نرى كيف ساعد إتقان التقنيات الحديثة، كشبكة المواصلات والإنترنت، في الثورات العربية على عملية التشبيك والتنسيق في مواجهة النظام فيما لم يحتاج المتظاهرون إلى الارتكاز على حركات معارضة منظمة كما الحال في السبعينات والثمانينات. في تلك الأوقات لم تخلو التكنولوجيا عن الساحة فكانت موجودة ولو بشكل مختلف من خلال التقاط موجات إذاعة "Radio Free Europe" التي كانت تبثّ مبادئ الحرية والديمقراطية في دول الكتلة السوفياتية، فتحولت منبراً ومصدر إلهام للنخب المعارضة في بلدان وسط وشرق أوروبا. كما سندرس مجرى الفترات الانتقالية وسبل إدارتها بعد سقوط رموز النظام وطرق إدارة المرحلة الجديدة (انتخابات جديدة وتعديلات دستورية ومؤسساتية)، وبالتالي من الضروري التطرق إلى معالمها وتأثيراتها الداخلية، كما الخارجية. فعلى سبيل المثال، أسهم انهيار جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989 في تقوية الحركات المناهضة للاستبداد السوفياتي حين حصلت ثورات تشيكوسلوفاكيا ورومانيا، ما أدى إلى شكل من أشكال ألعاب الدومينو المتساقطة في المنطقة، كما هي الحال في الوطن العربي منذ مطلع العام 2011.
أ- دينامية مواجهة النظام المطلق
في حين انطلقت أصوات المعارضة في بولونيا من رحم النقابات خاصة نقابة "التضامن" (Solidarnosc) الذي تأسس عام 1980 فضلا لجهود ليخ واليزا والتي نجحت في استقطاب ثلث القوى العاملة في البلاد أي ما يقارب 9.5 مليون شخص وتنظيم إضرابات واسعة النطاق في بولونيا، لحقت النقابات التونسية (وأكبرها الــUGTT) والمصرية (ونذكر هنا بدور نقابة المحامين المصريين) بحركة الشارع وثورة الساحات وتحررت من الهرمية السياسية إزاء الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس والحزب الوطني الديمقراطي في مصر).
وبالتالي، خلافا للعديد من الحالات الماضية في العالم، إن حركات المعارضة في الربيع العربي لم تأت نتيجة عملا تنظيميا كما حصل في معظم الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية حيث تغلب نشاط تيارات محافظة (في اليونان، اسبانيا، البرتغال وهنغاريا) أو يسارية (مثل بولونيا وشيلي) أو تجمعات شبابية (مثل هنغاريا وصربيا) على الاستبدادية، بل اجتمعت في الساحات فئات مختلفة وغير منظمة من المجتمع التي أقدمت على ممارسة شكل من أشكال العصيان المدني من دون اللجوء إلى العنف كما الحال في معظم الحالات في أوروبا الجنوبية والشرقية، باستثناء ليبيا التي أخذت منطق المواجهة إلى مستوى أبعد مما حصل في الثورة الرومانية فخاضت حربا داخلية مبنية على المفهوم التقليدي من حيث السيطرة على أرض الوطن وعاصمتها.
وردا على حركات العصيان في الشارع، أطلق أركان النظام القمعي في أوروبا موجات اضطهاد وان كانت بدرجات متفاوتة. في بولونيا أعلن العماد جاروزلسكي حالة الطوارئ في كانون الأول 1981 وتم اعتقال عدد من أركان النقابة (Solidarnosc) وفي رومانيا واجه الرئيس شوشسكو المتظاهرين بالسلاح كما حصل في البلدان العربية. اما في هنغاريا وبلغاريا وتشكوسلوفاكيا التي عانت من القمع العسكري في أكثر من مناسبة في ماضيها القريب، استفاد الشارع المعارض من ظاهرة الثورات المناهضة للاتحاد السوفياتي وانفتاح الرئيس غورباتشف فحققت الحركات أهدافها الانقلابية كلعبة الدومينو من دون أن تلجأ الأنظمة إلى خيارات عسكرية. وتسارعت التطورات السياسية في أوروبا الشرقية حين هدّم جدار برلين في تشرين الثاني 1989 وتمكنت حركات المعارضة في هذه الدول من الاندماج في العملية السياسية عن طريق الانتخابات التي أبعدت في كل الحالات (باستثناء رومانيا) الحزب الحاكم كما تم تعديل الدستور وأنيط بالحريات العامة وأهم الحقوق المدنية والسياسية كما الاقتصادية والاجتماعية. وكانت بولونيا، بفضل نقابة (Solidarnosc) والقوى الداعمة لها كالكنيسة الكاثوليكية، الدولة الأولى في أوروبا الشرقية التي عانقت المسار الديمقراطي مع انعقاد أول انتخابات حرة في 1989 التي أطاحت بالنظام الشيوعي وأسست خلفا له الجمهورية البولونية الثالثة.
ب- البحث عن الشرعية السياسية: تحديات المرحلة ما بعد سقوط الدكتاتورية
دخلت البلدان العربية الثلاث المتحررة مسار الإصلاحات السياسية، فأفرج عن المعتقلين السياسيين ورفع الحظر عن الأحزاب والتيارات السياسية كافة سامحا لها بالعمل في إطار تكريس مفهوم التعددية السياسية وأزيلت المجالس النيابية الفاقدة لشرعيتها. وانطلاقا من هذا النهج، انعقدت في تونس انتخابات لمجلس تأسيسي مهامه الأساسية وضع دستور جديد في محاولة لإعادة تفعيل عقد اجتماعي-سياسي جديد يتلاءم مع هموم المجتمع التونسي. وفي مصر أيضا تم اللجوء إلى العملية الانتخابية من أجل تجديد الطبقة السياسية والأمر عينه مقرر في ليبيا في حزيران/يونيو 2012.
في الحقيقة، تخوض القوى السياسية المتحررة في هذه البلدان الثلاث معركةً على مستويين: الأول فيما بينها في حين أن تحررها من أية قيود سلطوية فتحت باب التنافس على السلطة والنفوذ لدى المؤسسات السياسية (وقد برز تقدّم الأحزاب الإسلامية لحد الآن). ويتمحور المستوى الثاني حول طريقة التعاطي مع القوى وشخصيات التي كانت تابعة للنظام السابق. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا تخلوا الأمثلة فيما يتعلق بانخراط فعاليات سياسية أو عسكرية من عهد الدكتاتورية كحل وسط ومؤقت في عملية الانتقال السلمي نحو الديمقراطية. ففي اسبانيا عيّن الملك خوان كارلوس أدولفو سواريز، العضو الفاعل في الحركة الوطنية وهو الحزب الحاكم الفاشي في البلاد، رئيسا للحكومة عام 1976 فنجح الأخير في التفاوض مع قوى المعارضة من اجل إيجاد صيغة للانتقال نحو نظام ديمقراطي. وفي البرتغال أطيح الحكم العسكري، وهو أطول نظام استبدادي حكم في أوروبا (48 عاما)، على يد ضباط من المؤسسة العسكرية عينها الذين أطلقوا من خلال ثورة 25 نيسان عملية الانتقال نحو الديمقراطية. وكذلك الحال في تجربة اليونان حين تم الخلص من نظام العقداء في 25 تشرين الثاني 1973 وتم توقيف الرئيس بابادوبولوس على يد مجموعة من الضباط اليونانيين الذين وضعوا البلاد على سكة العبور نحو نظام ديمقراطي ابتداء من العام 1974. وفي رومانيا، وصل إليان إلييسكو، الشيوعي المقرب سابقا من الرئيس شوشسكو، إلى رئاسة البلاد في أيار 1990 جراء ثورة دامية قضت على أكثر من ألف ومائة متظاهر على يد النظام الدكتاتوري إلى حين تخلى الجيش عن زعيمها.
أما في باقي دول أوروبا الشرقية وثوراتها ابتداء من العام 1988-1989، لم يكن هنالك مكانا لرموز السلطة الشيوعية الحاكمة التي أزيلت من جراء العمليات الانتخابية وقدوم قوى سياسية منظّمة إلى السلطة (معظمها اشتراكية باستثناء هنغاريا). فأصبح ليخ واليزا أول رئيسا لبولونيا في عهدها الديمقراطي كما المعارض فاكلاف هافيل في تشكوسلوفاكيا؛ وفي هنغاريا صعد المعارض التاريخي جوزف أنتال إلى منصب رئاسة الحكومة بعد فوز تحالفه (الجبهة الهنغارية الديمقراطية) الانتخابات عام 1990.
في البلدان العربية اذا، بدأت المعركة من أجل إيجاد شرعية سياسية جديدة، فيراقب الباحث ماهية المؤشرات أو الشروط لنجاح المرحلة الانتقالية نحو نظام أكثر انفتاحاً ومبنياً على قواعد ديمقراطية كما يصنعا الحكام الجدد، من خلال رصد أفكار الفئات النخبية التي برزت في أعقاب سقوط هذه الأنظمة. فما هي الأيديولوجيات أو الخيارات التي تتنافس في الحالات العربية الحديثة في ظلّ المعارك الانتخابية الراهنة والقادمة؟ وما هي النماذج التي ستستلهم منها النخب الصاعدة في هذه البلدان؟ وما هو مدى تأثير نموذج "الأردوغانية" باسم رئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان الذي زاوج الديمقراطية التركية مع نوع من أنواع الإسلام السياسي؟ وهل تنجح تلك المجتمعات المحرّرة اليوم في تأسيس نظام منفتح، عادل ومتلائم مع مفهوم التعددية السياسية والطائفية، كما قيمها الاجتماعية والتقليدية؟
قد يكون من المبكر إعطاء إجابات نهائية لهذه التساؤلات في حين أن المراحل الانتقالية ما زالت في بدايتها على الصعيد العربي وما زالت تحاول النخب الصاعدة تحديد سياسة متجانسة حيال مناصري النظام السابق. فرأينا في مصر مثلا كيف أن عاد متظاهرو ساحة التحرير بمناسبة أي تطور سياسي كان لصالح رموز النظام المخلوع، في الوقت الذي فتح خط التحاور والتفاوض مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من أجل مناقشة مسألة دور ووضعية هذه المؤسسة في التركيبة السياسية ما بعد ثورة 25 يناير. وعلى هذا الصعيد سبق وأعلن المجلس عن رغبته في تسليم زمام السلطة إلى الهيئات السياسية المدنية في 30 حزيران/يونيو المقبل. كما شهدنا اعتراضات شبيهة في تونس حين عارض الشارع إلى جانب النقابات الحكومة الانتقالية الأولى التي كانت تحوي على عدد من وزراء سابقين للرئيس بن علي. وهنا يكمن أول تحدي حقيقي للأنظمة المتحررة: ماذا نفعل بمناصري "الأمنوقراطية" ؟ هل تسلك تلك الدول مسار الثورات السابقة التي قررت على تسويات معينة ومحددة مع النظام المخلوع أم أنها سترفض أي عملية توافقية لتفضل أسلوب تصفية الحسابات بواسطة أدوات السلطة ؟ وماذا عن دور الجيش؟ إذا بات السؤال مطروحا إذا ما ستتابع مصر وتونس وليبيا أسلوب دول أوروبا الجنوبية وأميركا اللاتينية وبعض دول أوروبا الشرقية التي اعتزلت فيها المؤسسة العسكرية من العمل السياسي في أعقاب الثورة.
ت- إيجاد سياق صالح من أجل تكريس المفاهيم الديمقراطية في العالم العربي
حين دراسة العناصر التي أدت إلى نجاح العملية الديمقراطية عن كثب في الموجات السابقة في العالم، لا بد من الإشارة إلى ثلاثة نقاط لا تخلو منها صفة الأهمية. الأولى هي ابتعاد الأنظمة عن أي شكل من أشكال عسكرة السلطة. نرى بالتالي في جميع الدول التي خضعت لتجربة الثورات الديمقراطية أن لا مكانة للمؤسسة العسكرية في السلطة (على الأقل مباشرة) التي سلمت على مراحل مختلفة إلى المدنيين. أما العنصرين الآخرين فهما مرتبطان بمسار إقليمي داعم للمفاهيم الديمقراطية والحريات كما الاستقرار على الساحة الإستراتيجية وأعني هنا عملية الاندماج المتاحة إلى مؤسسات إقليمية كالناتو والاتحاد الأوروبي أو منظمة الدول الأميركية. فقد ساعدت موجات الاندماج لدى الاتحاد الأوروبي بدء من إسبانيا عام 1981 وصولا إلى بلغاريا ورومانيا عام 2007 على تكريس الممارسات الديمقراطية وتأمين التداول في السلطة وباتت اليوم منارة لدول البلقان وجنوب شرق أوروبا المتأهبة أهب الاستعداد من أجل الالتحاق بالنادي الأوروبي كما الناتو. ويذكر المشهدان النمساوي عام 1999 والهنغاري مؤخرا عن الإجراءات الصارمة التي قد تُتّخذ ضد دولة من قبل الأعضاء الآخرين إذا ما خرجت عن مسار الحريات وحقوق الإنسان. كما لدى الاتحاد الأوروبي ومنظمة الدول الأميركية محكمة مخصصة لصون حقوق الإنسان وهي مفتوحة لكل مواطن كاد يظلم على يد حكومة بلده.
في المقابل، لا يوجد على الصعيد العربي مسار مؤسساتي بهذا المقدار يساهم في ضمانة استمرارية الإصلاحات والعمل على إزالة كافة عناصر الاستبداد رويدا رويدا وصون كرامة المواطنين العرب. فجامعة الدول العربية غير قادرة اليوم على لعب هكذا دور تأسيسي ومحوري وأمامها تحدي إصلاح البيت العربي كمنظمة دولية إقليمية من أجل تكوين معلم ومنارة لأعضائها لكي تعتنق الدول العربية القيم الديمقراطية وتأمين حاجات المواطنين العرب.
1 يختلف تحليل صاموئيل هانتنغتون الذي يتحدث هو الآخر عن ثلاث موجات، إلا أنه يبدأ بها في نهاية القرن التاسع عشر مع التحولات الديمقراطية في أوروبا الغربية، ثم المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية في ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فالموجة الثالثة التي دامت حتى النصف الثاني من القرن الماضي.
In HUNTINGTON, Samuel P. Démocratisation vers la fin de vingtième siècle. Normand : Université de pression de l'Oklahoma, 1991.
2. FUKUYAMA, Francis. La Fin de l'histoire et le dernier homme, Flammarion, Paris, 1992
لعرض نقدي حول تحليل فوكوياما، راجع:
BONNEFOUS, Marc. L'histoire sans fin recommencée. Réflexions sur le livre de Francis Fukuyama, La fin de l'histoire et le dernier homme.
Politique étrangère, n°3, 1992, 57e année, pp. 645-657.
Politique étrangère, n°3, 1992, 57e année, pp. 645-657.
3. SALAME, Ghassan. Où sont les démocrates ? In SALAME, Ghassan (ed.). Démocraties sans démocrates, Fayard, 1994, p. 8.
4. LAIDI, Zaki. La fin du moment démocratique ? Un défi pour l’Europe. Colloque des 11 et 12 mai 2007, Sciences Po, Paris.
5 WATERBURY, John. Une démocratie sas démocrates ? Potentiel de libéralisation politique au Moyen-Orient. In SALAME, Ghassan (ed.). Démocraties sans démocrates, op. cit. p. 95.
6. SALAME, Ghassan. Où sont donc les démocrates ? In SALAME, Ghassan (ed.). Démocraties sans démocrates, op. cit., pp. 7-32
7. Cf. HUDSON, Michael. Arab Politics: in search of Legitimacy, New Haven, Conn.: Yale University Press, 1977
8. SEURAT, Michel. L’Etat de barbarie, Seuil, 1989, p. 13.
9. SALAME, Ghassan. Où sont donc les démocrates ? Op. Cit., p. 23.
10. Cf. O’DONNELL, G., SCHMITTER, Ph., WHITEHEAD, L. Transitions from Authoritarian Rules, Baltimore, John Hopkins University Press, 1986, SCHMITTER Philippe, LYNN, Karl Terry . The conceptual travels of transitology. Slavic Review, Vol. LIII, n° 1, Spring, pp. 25-37.
11. GUNTHER R., DIAMANDOUROS P.N., PUHLE H.J. O’Donnell’s Illusions. Journal of Democracy, n° 7 (4), Oct. 1996, pp. 151-159
12. PRZEWORSKI A. Democracy and the Market, Cambridge, Cambridge University Press, 1991, p. 10
13. CHILCOTE, Ronald, HADJIYANNIS, Stylianos. Transitions from Dictatorship to Democracy, Comparative Studies of Spain, Portugal and Greece, Taylor & Francis, 1990.
14. Cf. HERMET, Guy. Le passage à la démocratie, Presses de Sciences-Po, 1996, p. 9.
15. Cf. POULANTZAS, Nicos. La crise des dictatures, Portugal, Grèce, Espagne, Paris, 1975
16. Cf. CHILCOTE, Ronald, HADJIYANNIS, Stylianos. Transitions from Dictatorship to Democracy, Comparative Studies of Spain, Portugal and Greece, Taylor & Francis, 1990
No comments:
Post a Comment