Search This Blog

رؤية مستقبلية لبناء الدولة اللبنانية: من الانفصام إلى التعددية

رؤية مستقبلية لبناء الدولة اللبنانية: من الانفصام إلى التعددية
in أبعاد, n°11, Lebanese Center for Policy Studies, March 2007, pp. 20-33.

كريم المفتي
باحث في العلوم السياسية

عندما سئل الوزير السابق للثقافة والعالم السياسي الدكتور غسان سلامة سبب تعذره عن استلام منصب جديد في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تألفت في نيسان 2005، أجاب أن "وقت البناء لم يرجع بعد وإذا رجع فأقبل بمنصب وزاري" (1). كان في قصد الوزير سلامة بكلمة "البناء" معنى بناء الدولة التي تعد الطرف الخاسر عند كل محطة رئيسية يمر فيها لبنان، وتبين صحة تنبه الوزير السابق فمنذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط 2005 أصيبت عملية إعادة بناء الدولة في البلاد، التي انطلقت عقب نهاية الحرب الأهلية عام 1992، بالجمود وعصفت بها المصاعب والعقبات. هذا ولم يستطع الطاقم السياسي اللبناني إنعاشها رغم خروج الجيش السوري من لبنان الذي افتتح مرحلة جديدة في تاريخ لبنان المعاصر. فانغمست مختلف القوى السياسية تدريجيا في الخلافات والتصادم وانقسمت إلى معسكرين: فريق الثامن من آذار الذي بات يمثل المعارضة وفريق الرابع عشر من آذار الممثل للأكثرية النيابية التي حصل عليها نتيجة الانتخابات التشريعية لشهري أيار وحزيران 2005. رغم هذه التحولات السياسية، استمرت فترة التفجيرات والاغتيالات التي وسعت الشرخ القائم بين الخطّين السياسيين فبلغت ذروة التباين بينهما عند اندلاع حرب جديدة على البلاد من قبل إسرائيل خلال فترة الصيف الماضي. فهز العدوان الإسرائيلي الكيان اللبناني (بقدر ما هز الكيان الإسرائيلي إثر هزيمته العسكرية وضرب ثقة المجتمع بجيشه) على الصعيدين الاجتماعي (الكلفة البشرية والاقتصادية للحرب) والسياسي (احتدام اللغة الهجومية بين المعسكرين) حيث خرج لبنان من هذه الحرب من دون أن تتقلص حدة الأزمات السياسية فيه بل على العكس، شهد ازديادا للشحن الطائفي واصطفافا خطيرا بدا وكأنه يأخذ لبنان ومعه دولته إلى شفير الهاوية.

كيف نفسر الانعكاسات السلبية على عملية إعادة بناء الدولة اللبنانية في الظروف الحالية؟ وما هي التداعيات السياسية لتلك المرحلة الجديدة المصيرية المليئة بالأزمات والافتراقات؟ سنطرح من خلال هذه المقالة أولا الإشكاليات المتعلقة بعملية إعادة بناء الدولة المصابة بالانفصام مع الاستعانة إلى بعض اللمحات التاريخية والسوسيولوجية، ثم نسير نحو تناول كيفية تعاطي مختلف القوى السياسية مع هذا الموضوع ولا سيما بعد خروج لبنان من زمن الوصاية السورية، ونختم ببعض التوصيات من باب الإرشاد لمن يهمه تحسين الحلقة الأضعف من النسيج اللبناني، أي دولته.

1- إشكاليات بناء الدولة في لبنان

كثيرا ما تحاط الدولة اللبنانية بالصفات السيئة فتلقب بالفاشلة وغير المجدية، والبعض يعتبرها "الدولة المستحيلة" أو "الدولة المفقودة" (2)، والآخر يرى فيها "دولة الفتنة"(3) ما حكاية الدولة اللبنانية التي لا تزال عملية بناءها مستمرة إلى يومنا هذا ؟ وما عمق الإشكاليات المتعلقة بها ؟

قبل أن ندخل في حديث قيام الدولة في لبنان وتعقيداتها، لا بد من التعريف أولا عن ماهية هذا المصطلح والتسلح بأبعاده التاريخي في لبنان. نستطيع أن نعرف عن مفهوم "الدولة" بالآتي: هو "كيان سياسي-قانوني ذو سلطة سيادية معترف بها في رقعة جغرافية محددة"، مع الإشارة إلى أن هذا التعريف ليس هو التعريف الوحيد لدى الأوساط الأكاديمية للعلوم السياسية ولكنها تحتوي على عناصر الحد الأدنى المشترك بين كافة التعريفات(4) . وهنا نلاحظ مدى وساعة هذا التعريف العلمي الذي يمكنه أن يتلاقى مع العديد من النماذج من الناحية الهندسية أو الهيكلية أو الإدارية في كل أنحاء العالم. فالدولة في فرنسا أو بريطانيا أو الهند أو تركيا أو مصر تختلف ملامحها ومحتوياتها وتركيباتها عن بعضها، فلكل بلد ظروف تاريخية وخصوصيات سوسيولوجية وانتروبولوجية أدت كلها إلى تكوين نموذجا فريدا من نوعه يربط بين مجتمع معين ودولته. أما لبنان فعان من ذلك التكاثر في التعاريف وتأثر من الايديولوجيات المتناقضة، حتى أن لم يغب عن المسرح السياسي اللبناني أي من المدارس الفكرية المتعلقة بمفهوم الدولة التي يوزعها المفكر وضاح شرارة على أبواب ثلاث: المشروع التغريبي والمشروع الإسلامي والمشروع القومي . فبلغ النشاط السياسي في لبنان درجة عالية جدا من التعددية على صعيد الأفكار والنوادي السياسية سواء كانت يمينية ليبرالية أو يسارية، تقدمية، اشتراكية، شيوعية أو قومية، علمانية أو إسلامية. فتاريخ لبنان السياسي تملؤه روح المنافسة والنضال فيما تتعدد فيه المشاريع المتعلقة بتكوين الدولة الأمثل للمجتمع اللبناني كما تدافعت الدول العظمى لدعم احد الفرقاء في الداخل كجزء من استراتيجية احتواء للطرف الايديولوجي الآخر. إضافة إلى ذلك، لا بد أن نذكر من جملة التحديات المتراكمة على دولة لبنان المعاصر التهديد المستمر على وجدان الكيان اللبناني بالأساس وعلى مسار استمراره كـ"دولة نهائية لكل أبناءه" كما تنص عليه الفقرة (أ) من مقدمة الدستور. فما أن اكتسبت الدولة استقلالها عام 1943 إذ ظلت جهات سياسية ذو نفوذ، في مقدمتها الأحزاب القومية، تعتبر أن لبنان-الدولة ليس كيانا نهائيا بل ينتظره فرج مصيري وهو توحده مع بقية أقطار الوطن العربي.

علاوة على ذلك، شكل تواجد الفدائيين الفلسطينيين ونشاطهم العسكري على أرض لبنان من خلفية ضرورة انخراط لبنان-الدولة-الساحة في الدفاع عن القضية الفلسطينية والنضال ضد الإحتلال الإسرائيلي، نقطة انفصال بين المجموعات اللبنانية المتنافسة. فاحتدم الصراع بين الأقطاب السياسية (وميليشياتها آنذاك) ومناصريها واشتعلت أزمات متعددة متنوعة الأشكال والمضامين حتى يأخذ الوضع منحى دراماتيكيا واندلعت فيه حرب أهلية وبلغت الدولة ذروة ضعفها وعجزها.

الأسباب من ذلك عدة ولها شق متعلق بعوامل داخلية، فلبنان معروف بنسيجه الاجتماعي التعددي الحاوي على ثمانية عشرة طائفة كلها أقليات. تحتفظ قيادات أهم المجموعات من ناحية الحجم (أي الشيعة والسنة والموارنة) أو من حيث النفوذ (كما الدروز أو الروم الأرثودكس مثلا) على درجة عالية من السلطة والنفوذ وذلك على حساب تفعيل الدولة ومؤسساتها. ولكل فريق سياسي توجهات خاصة به تتعلق بمصير الدولة وتتناقض مع توجهات الأقطاب الأخرى وغالبا ما يصل الخلاف الأيديولوجي في وسط كل طائفة أو مذهب ويقسم بين أبنائه مما يزيد الحالة تعقيدا وتوترا. ويعود الشق الآخر من الأسباب التفسيرية إلى الضغوطات الإقليمية والدولية التي يتأثر منها الواقع اللبناني منذ عهد الاستقلال حتى اليوم. فعلى الرغم من الوفاق الوطني لعام 1943 واتفاق النخب السياسية على صيغة توازنية توزع من خلالها مراكز السلطة والمناصب على أهم الطوائف، ظلت أعباء التناقضات الداخلية والظروف الخارجية "الاستثنائية" كما باتت
معروفة(8) تعرقل بشدة عملية قيام دولة حديثة في لبنان. وعندما ينعدم التوافق بين القادة اللبنانيين التي يرافقه تسلل للتدخلات والمصالح الإقليمية والدولية، تقفز حينئذٍ التطورات السياسية من أزمة إلى الأخرى وقد ينهار الهيكل كما الحال عام 1975 .(7(

في ظل هذه الظروف، نستخلص من الإرث السياسي اللبناني اليوم عدم تمكن (أحيانا رغبة) النخب السياسية على مدار العقود الماضية في ايجاد إطار يفتح المجال لقيام دولة فعالة وقادرة ترعى شؤون كل اللبنانيين. فبقيت الدولة على هامش اللعبة وأحيانا خارجها في حين أصبح زعماء الطوائف والأحزاب الرئيسية وأصحاب القضايا هم صانعي القرار السياسي بغض النظر عن توليهم مراكز نفوذ داخل المؤسسات. بمعنى آخر فإن السلطة الفعلية والقدرة على خدمة المواطن وتلبية حاجاته غير منحصرة بمؤسسات الدولة، الأمر الذي ساهم في إبقاء الدولة وأجهزتها في موقعها الضعيف وأدى إلى تعزيز شبكات الزبائنية بين القادة السياسيين وأنصارهم أكان ما يجمعهم العنصر الطائفي أو المذهبي أو المناطقي أو بكل بساطة مصالح متشابكة. وهنا نجد فجوة رئيسية في التطابق بين "المجتمع" و"الدولة الحديثة" في لبنان.

فلنعمق هذه الفكرة قليلا: إذا نظرنا إلى الدولة اللبنانية من منظور المفهوم الغربي الحديث الذي يعطي للدولة صلاحيات ومهام سيادية على رأسها حماية أرض الوطن وتوفير الأمن والاستقرار وإعادة توزيع الموارد والخيرات بمنطلق عادل، وحسم الخلافات بين الناس والجماعات أيا كانت من خلال سلطة قضائية نزيهة وشريفة، فنرى أن الدولة ليست اللاعب الوحيد في تلك المجالات بل أن منافسها الأول هو مقومات المجتمع اللبناني نفسه. لنلجأ إلى بعض المعطيات والأمثلة لإيضاح تلك المعضلة عبر مراقبة لقطات من التفاعل الاجتماعي ما بين اللبنانيين في العقدين الأخيرين:

- على صعيد حماية أرض الوطن
بعد إبرام اتفاق الطائف ونظرا لحالة المؤسسة العسكرية المتدهورة آنذاك، وكلت الدولة – عبر القائمين على أعمالها حينذاك – جهة خارج سلة مؤسساتها (أي حزب الله) لتساندها في مهمة محاربة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. فنصَّ البيان الوزاري لأول حكومة في الجمهورية الثانية بعهد الرئيس الياس الهراوي على أن "الحكومة [...] لن تألو جهدا ولن تدخر وسعا في العمل على تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي بكل الوسائل المتاحة ولاسيما دعم المقاومة الباسلة"(8) . فحظي هذا الدعم والتنسيق بين مكونات الدولة ما بين جيشها وأجهزتها الأمنية والمقاومة الإسلامية الواقعة خارج دائرة الدولة، على غطاء سياسي وتم في نهاية المطاف تحرير جنوب لبنان في 25 أيار 2000. أما عن مصير هذا التوكيل الرسمي لحزب الله في هذا المجال فلن نتطرق هنا إلى الجدل القائم اليوم لدى الأقطاب السياسية المنقسمين ما بين الراغبين في إعادة النظر في ذاك التكليف وبين المتمسكين فيه.

- على صعيد الرعاية الاجتماعية
بفعل عجز الدولة عن تحقيق إنماء اقتصادي-اجتماعي متوازن بين المناطق، باتت شرائح واسعة من الشعب اللبناني مخنوقة في أحوالها المعيشية اليومية. فتقوم العديد من الجمعيات الخيرية والمؤسسات بدور مساعدة هؤلاء لمواجهة تلك الظروف الضيقة فتشكلت تاريخيا عند كل طائفة – وحتى لدى التيارات السياسية المتتالية – شبكة تضامنية توفر حدا أدنى من الدعم والوظائف إلى أبناءها. فما أن صرف مواطن من وظيفة ما وإذ بإمكانه أن يتوجه إلى أركان طائفته من أجل البحث عن عمل بديل أو لطلب المساعدة في بعض الجوانب من الحياة العائلية من مصاريف تتعلق بتعليم الأولاد أو بالاستشفاء مثلا. وهنا قد يأتي الدعم من مصدرين، إما عبر مؤسسات وأموال خاصة بزعيم سياسي، إما عبر إحدى مؤسسات الدولة التي تصبح حينئذٍ وسيلة لمساعدة بالدرجة الأولى من ينتمي إلى طائفة أو مذهب أو منطقة معينة أو من يخص عصبية مشتركة. في الحالتين، تبقى النتيجة واحدة وهي إرساء الولاء للشخصية السياسية المعنية التي قدّمت ’مفتاح الفرج‘ وإبقاء الدولة على هامش دورها من ناحية الرعاية الاجتماعية.


- على صعيد حل الخلافات بين أفراد الجماعات والعائلاب والعشائر أو غيرها من مكونات المجتمع:
لو أخذنا مثلا كيفية حل الخلافات بين العشائر في بعض المناطق كالبقاع والهرمل، نرى مدى انخراط فعاليات غير منتسبة إلى دوائر رسمية في العمل على إيجاد حلول ونفخ رياح المصالحة حرصا على السلم الأهلي الذي يفترض أن يكون من صلاحيات الدولة. ويصف الباحث نزار حمزة ارتداء حزب الله لباس الوسيط فيما يفوق مائتان حالة منازعة بين مختلف عشائر شيعية في البقاع في عامي 1993 و1994 وذلك بناء على طلب مباشر من المعنيين من أهل المنطقة، وكيف كتب للحزب النجاح في إيجاد حلا ايجابيا للثلثين منها(9) . أما عن دور الدولة اللبنانية، يشير حمزة كيف أن "السلطات اللبنانية ترتكز على نفوذ فعاليات العشائر من أجل حل الخلافات" (10) ويظهر مدى قبول الدولة من حيث المبدأ على هكذا ممارسات من قبل الجهات المعنية، الأمر الذي يدل على اعتراف واقعي لها. إن ذلك الأسلوب التواسطي لحل الإشكاليات لا تنحصر بالعشائر في البقاع أو بدور حزب الله فحسب، بل هو أسلوب منتشر أوسع الانتشار في كل المناطق اللبنانية وعند كل الطوائف والتيارات السياسية من أجل تحقيق مصالحات بين عائلات متخاصمة ضمن حي أو بلدة أو قرية معينة. وهنا أيضا غالبا ما تتوسط جهات من الفاعليات السياسية أو الاجتماعية من دون اللجوء إلى القضاء – أي الدولة.

أظهرنا عبر بعض الدلائل مدى تقدّم مقومات المجتمع اللبناني على دولته وهي ظاهرة تجرنا إلى نظرية "الدولة العاجزة مقابل المجتمع القادر"، التي أتى بها الباحث جُوال ميغدال الذي فسّر كيف أن الدول الناقصة تضطر إلى الاعتراف بقدرات النسيج الاجتماعي التي تتعدى في العديد من المجالات قدرتها الفعلية. فبدلا من مناهضتها تفضل الجهات الرسمية الارتكاز على فعاليات المجتمع من أجل مساندتها في البعض من صلاحياتها(11) . ورجوعا إلى العشائر اللبنانية المذكورة أعلاه، رأينا كيف أن أهالي المنطقة توجهوا تلقائيا نحو جهات هي غير مؤسسات الدولة لحل مشكلاتهم مما يدل على انعدام الثقة فيها وعلى قناعة بأن مفتاح الحلول ليس بيدها.

ليس الهدف مما ورد أعلاه توجيه الاتهامات أو الانتقادات ولا الحث بأن تتولى الدولة تلك الصلاحيات بشكل قاطع وشمولي، بل إظهار بعض الجوانب للواقع الاجتماعي-السياسي اللبناني الذي تستمد جذوره إلى أبعاد تاريخية وسوسيولوجية. فهو ليس وليد الساعة وكان الباحث ادواردز شيلز قد تطرق إليه في الستينات موصفا كيف أن "المجتمع اللبناني يدور حول مركز قرار يسوده الفراغ"(12) . ومن مواصفات هذه الحالة الاجتماعية اللبنانية، لا بد من تناول ظاهرة أساسية منها وهي اعتماد الحذر الشديد والعميق عند الطوائف وأعضاءها إزاء أي شكل من أشكال السلطة المركزية الموحدة (أي في النهاية الدولة) التي قد تأخذها الظروف والتطورات إلى فصل من فصول الهيمنة والاستبداد على أفراد وجماعات محددة أو ربما إلى تعرضها لمحاولة إلغاء، مما قد يهدد سلامتهم ووجودهم وقد يطال أرزاقهم وممتلكاتهم. ونعود هنا إلى تذكير دور لبنان التاريخي في احتضان الطوائف المختلفة من كل أنحاء الدولة العثمانية هربا من الاضطهاد. فمنذ ذلك الحين، شهد لبنان تكاثرا في مراكز القرار والنفوذ وتكوّن إصرار لدى أبناءه في حينها بعدم السماح بتركيز كافة مقومات السلطة في يد واحدة. فولّدت تلك المخاوف نظاما سياسيا برلمانيا يعرف بالـ"ديموقراطية التوافقية" يحكمها نظام طائفي البنية وتوزيعي الصفة بين الأقطاب السياسية الرئيسية في البلد ويحافظ على التوازن بين الطوائف ومصالحها ويردع رغبات الهيمنة من طرف دون الآخر (13).
من هذا المنطلق، تبلورت مخاوف إضافية وهي مرتبطة بالأولى، أي تخوّف الطوائف اللبنانية من محاولة إطاحة هذا النظام البرلماني التوافقي الذي اتفقت عليه الزعامات السياسية، وتحوله إلى دكتاتورية بتأثير من البلاد المجوارة التي تحكمها أنظمة استبدادية مناهضة للحريات العامة ويفتقر فيها الحد الأدنى لحقوق الأنسان.

إلى جانب تلك الضغوطات والتأثيرات، تمر الدولة اللبنانية بأزمة هوية تفاقمت مداها بفعل يوميات الحرب الأهلية التي عودت الناس على مدار خمسة عشرة سنة على العيش من دون هيئة عليا مؤسساتية تدير شؤونهم وتحمي حقوقهم. وتكيف المواطنون مع هذا الواقع واعتمدوا على أطراف خارج الدولة لتحميهم ولترعى مصالحهم كالزعامات السياسية التقليدية أو الميليشيات أو المجموعات الروحية وطائفتهم التي كانت تشرف ولا تزال على شبكات تضامنية صحية واجتماعية واسعة النطاق تخدم أبنائها وأعضائها. وما زال هذا الانطباع الشعبي إزاء الدولة قائما ليومنا هذا. ويأخذنا هذا التحليل إلى أن النخب السياسية ليست الوحيدة المسؤولة عن صعوبة ولادة دولة فعلية في لبنان إذ أن الأفراد والجماعات تسعى أيضا إلى الهروب من القانون وتجاوزه بدعم وغطاء من مراكز النفوذ من غير الدولة والأقوى منها. فبمجرد استخدام وسيلة الـ"واسطة" يمكن للمواطن تجاهل القانون والمضي بأعمال غير مشروعة وجر جهة مؤسساتية إلى تأمين مصلحته أكانت خاصة أو فئوية. وساهم هذا التصرف هو الآخر على مدار السنين بإفراغ الدولة من دورها الحفاظ على المصلحة العامة وتلبية حاجات المواطن واحترام حقوقه. فبقيت الدولة اللبنانية غير قادرة على إدارة شؤون الناس وحسم خلافاتهم بحكم التجاذبات السياسية والمحاصصات والمحسوبيات والنظام الزبائني القائم في البلد.

لهذا السبب أيضا، بقي زعماء الطوائف والأحزاب متعمدين على التمسك بحد أقصى من التأثير والنفوذ داخل الدولة والحكومات والسلطات، خوفا من أن يحرموا من أدوات جوهرية لمضاعفة درجة التكمش على جماعاتهم. فتظهر الدولة حينئذٍ في موضع الفريسة المتواجدة على مرمى أطماع الأقطاب السياسية. هذا بما يتعلق بالصعيد السياسي، أما على الصعيد المالي، تستقطب الدولة وإداراتها بالرغم من ضعفها أموالا وثروات باهظة إلى خزينتها التي تخضع أيضا لمفهوم المحاصصة والتوزيع الإجباري بين ذي النفوذ، الأمر الذي غالبا ما يشجع الفرقاء السياسيين على تصعيد وتيرة التنازع من خلال عرض عضلات لغرض زيادة حصتهم. أخيرا، وليس آخرا يهم الزعماء السياسيون السيطرة على قرار الدولة في حين أنها تمثل الإطار القانوني الأساسي لرسم اتجاه السياسات العامة للبلاد ولا سيما سياسته الخارجية المعروفة بصنع الأزمات على مدار تاريخ لبنان المعاصر. وقد سبق وذكرنا في الفقرات أعلاه مدى أهمية المحيط الإقليمي والدولي للأقطاب السياسية المتعددة الذي تحاول كل واحدة منها استثمارصداقاتها الدولية والإقليمية من أجل تعزيز موقعها وتسجيل النقاط في الساحة الداخلية.

من هذا المنطلق، يشكل موقع القرار السياسي المركزي داخل الدولة ساحة مفتوحة لصراع وتنازع شبه مستمرين بين مختلف التيارات السياسية. فيعطي امتلاك القرار المركزي الإمكانية – نظريا وفعليا – بتحقيق مشروع معين بالنسبة إلى بناء الدولة أو غيرها من المشاريع المصيرية بحياة اللبنانيين. فقد يشكل نجاح أي من المشاريع والقضايا المطروحة هزيمة للطرف الآخر في حين أن لبنان تسوده القاعدة غير المكتوبة "لا غالب ولا مغلوب"، لتفادي أي خلل في التوازن السياسي-الطائفي القائم في البلاد. وكُرّست هذه القاعدة عند خروج لبنان من الحرب الأهلية من دون أن تحسم نهائيا الخلاف الأولي بين اللبنانيين حول الاتجاه الاستراتيجي للبنان الغد. ورغم أن الراعي السوري كان قد علّق الموضوع بين قوسين في فترة وصاية "عنجر" إلا أن المسألة بقيت حية في الباطن عند العديد من الأقطاب. فما أن خرج اللاعب السوري من لبنان الذي غالبا ما كان في موضع الحكم النهائي في خلافات الداخل، وإذ أنفتح باب التساؤل من جديد: أي دولة لأي لبنان؟ ثم أتت حرب الصيف 2006 ومعها لهجة التصاعد ولغة التصادم بين الأقطاب السياسية في محاولة لكل واحدة منها لترويج تعريفها الخاص وتصورها الأنسب من دولة لبنان الغد. في هذا السياق، سنتعمق قليلا في تصورات كلا المعسكرين من هذه القضية عبر اللجوء إلى منهجية علمية موضوعية لا مجال للتسييس فيها وتعتمد على الاستدلال ببعض المواقف السياسية لأبرز الأقطاب المتنازعة على الساحة اللبنانية من دون تفضيل جهة على أخرى ومن دون التعميق في استراتيجيات وتحالفات كل واحدة منها.

2- ظاهرة الصراع على الدولة اللبنانية في المرحلة الجديدة

يعيش لبنان اليوم صراعا حاميا مصيريا يدور بين الأطراف الحزبية حول التملك الحصري على روح وقلب لبنان. فنمّى كلا الفريقين الملقبين بـ"الرابع عشر من آذار" وبـ"الثامن من آذار" أيديولوجية معينة حول مهمة لبنان الغد وميزاته. ويقول المحلل السياسي سركيس نعوم أن "في هذا الصراع، يؤكد كل من الفريقين انه يعمل لدولة تشمل الجميع، لكن لا شيء يشير إلى اقتناع اللبنانيين بذلك" (14)، أي أن التطورات السياسية أوصلت المعسكرين إلى انعدام كامل للثقة فيما بينهما. الأمر الذي ينعكس سلبا على الساحة السياسية حيث يتهم القطبان السياسيان بعضهما البعض بالمضي بمشروع إقليمي أو دولي يشكل خطرا على تصور كلا الطرفين لبناء ’الدولة الفاضلة‘ كما تُروّج عند كلاهما. وتأتي الخطابات السياسية من مختلف الأقطاب اللبنانية لتؤكد على هذا المناخ، فصرح السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في إحدى مقابلاته: "إذا أصر البعض على ضم لبنان إلى أحلاف دولية تخوض حروبا دولية وضعنا بين خيارين، بين أن نكون في حلف يمتد من بيروت إلى دمشق إلى طهران وغزة إلى أخونا شافيز في فنزويلا وبين حلف آخر يمتد من تل أبيب إلى أمريكا وغيرها فسنكون قطعا في الحلف الأول"(15) ؛ فيما رأى رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع أن لبنان يتعرض لـ"حرب تشن عليه"(16) من قبل المحور عينه الذي يدافع عنه فريق الثامن من آذار. وعندما ينبه السيد حسن نصر الله أن لبنان "لن يكون اميركيا ولن يكون إسرائيليا ولن يكون موقعا من مواقع الشرق الأوسط الجديد الذي يريده بوش وكوندوليزا رايس"(17) ، أي أنه يتهم الطرف الآخر باستدراج مصالح الولايات الأميركية إلى داخل الساحة اللبنانية، يعتبر بدوره النائب وليد جنبلاط، أن حزب الله يعمل من أجل "محور لبناني-سوري إيراني [لكي] يكون لبنان جبهة مفتوحة"(18) و"تبقى البلاد ساحة صراع مفتوحة إلى الأبد" (19).

تعبر هذه المواقف عن مخاوف عميقة لدى كلا الطرفين من تدخل خارجي يعرف إطاره بمفهوم "سياسة المحاور" أو "حرب الساحات"، وقد يطيح بالتوازن الطائفي-السياسي أو السياسي-الطائفي الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، لا تقف هواجس القطبين عند حد التدخلات الأجنبية والعربية بلباس داخلي، بل تزرع أيضا شكا في أداء وتصرف كلاهما مع الآخر مما يضاعف درجة الارتياب ومعها البحث عن الاطمئنان. فيقول السيد حسن نصر الله في مقابلة أخرى: "عندما يقف بعض الناس في لبنان ويقولون نحن نخاف منكم طمئنونا، أنا أريد أن أقول، أنا أيضا أخاف منكم طمئنوني. الكل في لبنان بحاجة إلى طمأنة نتيجة أن لبنان كان وما يزال على خط الزلزال المحلي الإقليمي الدولي"(20) . ونجد عند الطرف الآخر أيضا تعبيرا لهذه الهواجس فيتخوف الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط من محاولة "انقلاب" (21) من قبل قوى المعارضة كما يعتبر رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع أن "المعركة ليست معركة مقعد وزاري ’بالزائد أو بالناقص‘ بل هي معركة حياة أو موت" .(22)

وفي هذا السياق، تبقى عملية بناء الدولة عالقة على يد ارتياب كلا المعسكرين فيرمي كل واحد منهما اللوم على الطرف الخصم. فيتهم النائب وليد جنبلاط حزب الله بأنه يريد "إعادة النظر في [اتفاق] الطائف" والاستيلاء على مقومات الدولة كافة مفسرا مواقف حزب الله وكأنها تفترض الآتي: "تفضلوا أنا الدولة! تفضلوا سأضع شروطي وانضموا إلى دولتي" (23) . كما ينبه سمير جعجع اللبنانيين بأن "الدولة في لبنان لا تبنى بوجود دويلات صغيرة داخل الدولة" (24

والكلام موجه هنا ضد أركان فريق الثامن من أذار معتبرا في مناسبة قداس حريصا أن "أعمال وتصرفات هؤلاء بالذات تعرقل قيام دولة" فيعيد ويكرر السؤال نفسه: "كيف يمكن أن تقوم دولة وهنالك دويلة إلى جانبها ؟" (25) . عرقلة إضافية يخشى منها زعيم تيار المستقبل النائب سعد الدين الحريري من قبل فريق المعارضة هي "عرقلة المحكمة الدولية" لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري .(26)

في الوقت نفسه نجد حلقة اتهامات مضادة من قبل المعسكر الآخر فيرى السيد حسن نصر الله أن "هناك من لديه مشروع حرب مع سوريا"(27) وأن "هناك على ما يبدو قرار جديد اسمه: أن هؤلاء [أي الطائفة الشيعية] جماعة لا نريدهم، نريد أن نفتح معهم حربا سياسية وشعبية"(28) ، وأن "هنالك إصرارا من فريق ما على فرض خياراتها على كل لبنان ولا يريد شركاء"(29) ، الأمر الذي يعيق قيام الدولة من منظور حزب الله وحلفائه.

ليس المطلوب هنا حسم وتقييم هذه التناقضات بل إظهار مستوى التخوف والتباين عند المعسكرين المنشغلين بتبادل الاتهامات حول أمور تعتبر مصيرية وجوهرية لكلاهما وتمس بوجدانهم وبقاءهم. فلنبتعد هنا عن جو التشنجات السياسية لنستعرض ما هو في نهاية المطاف موقف كلا المعسكرين إزاء مهمة ومهام ووظيفة دولة لبنان الغد؟ بالنسبة إلى النائب سعد الدين الحريري، "الدولة هي الضمانة الوحيدة للشعب اللبناني [...] وما يجب ان يسود هو منطق الدولة و إرادة الدولة و فاعلية الدولة" (30). وعن وجهة نظر حزب الله المعارض لفريق الرابع عشر من آذار، نقرأ أنهم "متفقون على أن الذي يحمي كل الطوائف في لبنان هو الدولة وحدها والوحدة الوطنية وحرص جميع اللبنانيين على السلم الأهلي والعيش المشترك وإصرارهم على الشراكة الحقيقية" (الكلام للسيد حسن نصر الله (31)). وعودة إلى معسكر الرابع عشر من آذار، كانت رؤية الوزير الشهيد بيار الجميل أن "من يحمي الجميع هو الدولة اللبنانية دون سواها [...] وأن الدولة اللبنانية لا تقوم إلا على تعاون صادق وشريف بين كل أبناء الوطن مهما كانت انتماءاتهم على قاعدة الشراكة الحقيقية" (32). وإذا اطلعنا على موقف رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع نرى أنه مع " الدولة التي تضم الجميع. لا حل خارج قيام هذه الدولة" (33) ويكمل في أن"لا خلاص للبنان في الوقت الحاضر الا بقيام دولة قادرة وفاعلة" (34). من جانبه أكد العماد ميشال عون رئيس التيار الوطني الحر عشية عودته من المنفى إلى لبنان أن أبعاد عمله السياسي فور رجوعه سترتكز على "منطق تأسيس الدولة" (36).

نستنتج من تلك الجولة السريعة على المواقف أن مختلف الفرقاء متفقون على ضرورة قيام دولة "ضامنة" و"حامية" و"ضامة" للجميع و"قادرة" و"فاعلة" من أجل "خلاص" اللبنانيين وذلك بغض النظر عن الافتراقات العميقة بين الأطراف المتنازعة على أصعدة أخرى. وأتى رئيس مجلس النواب نبيه بري بدوره ليشدد على مسار "الخلاص" بقوله أن "لا أحد يستطيع أن ينقذ لبنان لوحده. فإما أن ننقذه جميعا أو أن ننهار جميعا" .

كما نستنتج أيضا كيفية تلاقي التيارات السياسية الرئيسية في البلاد على قيام دولة مستقلة وذو سيادة في لبنان، الأمر الذي يشكل حلقة مفصلية في تاريخ لبنان المعاصر الذي كان كيانه ومنذ زمن ليس ببعيد غير معترف به من قبل قوى لبنانية رائدة آنذاك والمستقطبة لأفراد ولأعضاء من أغلبية الطوائف اللبنانية. فكانت تلك القوى السياسية مؤمنة بنظرية "الدولة المرحلية" فيما يتعلق بلبنان وكل الدول العربية القطرية، كما كانت رافضة قطعا لمفهوم "الدولة النهائية" التي أصبحت اليوم قاسما مشتركا من حيث المبدأ بين مختلف الأفرقاء اللبنانيين. وبالرغم من أن تلك النظريات ما زالت تُداول في الخطاب السياسي اللبناني إلا أنها باتت في موقع الأقلية السياسية فهي غير موجودة على رأس أولويات المعسكرين القائمين اليوم في المشهد السياسي اللبناني.

أما جوهر الصراع اليوم فله وجهان : الأول حول تحديد "أي دولة" تبنى لا سيما من ناحية المضمون ويقع الشرخ الأكبر هنا في تحديد دور ومستقبل سلاح المقاومة؛ والثاني حول "آلية البناء" لدولة لبنان الغد، وهنا أيضا شرخ عميق لا سيما فيما يخص اسس النظام السياسي اللبناني فثمة فريق متمسك أشد التمسك بما يعرف بـ"الديموقراطية التوافقية" وآخر يجنح إلى تعديل هذه التقاليد اللبنانية لتكريس منطق الأكثرية في اتخاذ القرارات يعتبره أقرب إلى الحداثة السياسية. ما لم يلقى جواب لتلك المسألتين الجوهريتين المتعلقتين برسم ملامح لبنان الغد، سيبقى التنازع قائما بين مختلف الفرقاء وستظل الجدليات القائمة تنعكس سلبا على مستوى فعالية الدولة. ولكن ثمة تحول جذري في عمق الخلاف قد برز والذي يلقي نفخة إيجابية إلى الأمور في حين أن ذلك الصراع قد جرّ الدولة إلى وسط دائرة الصراع وليس خارجها أوعلى هامشها كما الحال في الفترات السابقة والتي أدت بها إلى الانهيار وتفكك أوصالها.

3- سبل إرساء أسس دولة جامعة للبنانيين وعابرة للطوائف

في حقل بناء الدولة ومفاصلها فمن المسلمات أنه من غير إرادة سياسية عظمى وصلبة لبناء تلك الدولة الجامعة لكل اللبنانيين، فيبدو من المستحيل أن تستكمل عملية بناء الدولة مسيرتها التحديثية وقد رأينا كيفما ارتفعت وتيرة التوتر السياسي وبدرجات والذي أدى إلى تأزم الماكنة التوافقية بين الأقطاب السياسية، تلك الماكنة التي كانت غالية على ميشال شيحا، أحد كبار المفكرين اللبنانيين وأحد مؤلفي الدستور اللبناني الذي صرح فور الانتهاء من صياغة النص الدستوري: "هذا هو دستور لبنان أما دستوره غير المكتوب فيعتمد على الوفاق والحلول الوسطى" (في 1926). وفي ظل انعدام الظروف السياسية الملائمة، فمن المستصعب المضي في عملية بناء دولة فاعلة للبنان.

ولكن رغم الصعوبات ورغم التناقضات، فإن العملية ما زالت سالكة وإن أصابها بعض الجمود على صعيد القرار السياسي. فإذا نظرنا إلى الإدارات اللبنانية ورغم بنيتها المعطلة في أكثر من جانب، غالبا ما نستنبض في بعض المجالات إرادة العديد من مدرائها في الإصلاح والتحسين. ويمكننا أن نشير هنا إلى تحول منصب وزير الإصلاح الإداري إلى مكتب لوزير تنمية الشؤون الإدارية في مطلع القرن الجديد من أجل تفعيل دينامية الإدارة اللبنانية، وقد نشير أيضا إلى ظاهرة تزايد عدد الخبراء اللبنانيين المعينين من خارج الملاك العام وهم أحيانا قادمون من بلاد الاغتراب لوضع خبرتهم لصالح المنفعة العامة. هؤلاء مكلفون رسميا بإدارة بعض المشاريع الإصلاحية داخل الإدارة اللبنانية ويمكننا أن نذكر هنا الأستاذ شوقي حمد الذي كان له دورا رائدا في تنفيذ مشروع الضريبة للقيمة المضافة وقد أصبح مديرا لمديريتها في وزارة المالية عام 2001، أو الأستاذ رودي بارودي وهو مستشار خاص في ملف إصلاح شركة كهرباء لبنان أو أيضا الأستاذ زياد حايك الرئيس الجديد للهيئة العليا للخصخصة الذي اكتسب خبرة واسعة من خلال العمل لمدة ثلاثين سنة في الخارج.

تشكل هذه المعطيات مؤشرات إيجابية حول مدى وجود محرك خاص بالإصلاح لدى بعض أجهزة الدولة اللبنانية ولا فسحة لتعميق هذا الجانب في هذه المقالة، ولكن نعيد ونكرر كيف أن بناء دولة مستقبلية فاعلة لا تكتفي بعمل إصلاحي فرعي ومتفرق يتعلق ببعض الدوائر الإدارية. بل المطلوب هندسة هيكلية حديثة للدولة اللبنانية على أن يستمد عملها إلى قيم مشتركة تجمع اللبنانيين من أجل تحسين وتعزيز العلاقة ما بين مقومات المجتمع والدولة. نضع في هذا الإطار بعض الأفكار والتوصيات التي قد تساعد على سلط الأضواء على ذاك المسلك لبناء الدولة الذي غالبا ما نراه معرضا للتضليل والتحريف على يد المحاصصات والمنازعات السياسية.

فلنستكشف بعض المبادئ لتنظيم إدارة المجتمع اللبناني وسنعرض هنا اثنين. أولا، يستند نجاح قيام دولة جامعة في لبنان على إيجاد نموذج لبناني بحت يتناسب مع إدارة شؤون اللبنانيين وعلى أن يتلاءم مع مجتمعه المتعدد الطوائف والمتنوع، بعيدا عن النماذج المركبة والمعلبة المستوردة من حالات مختلفة في العالم. فعلى اللبنانيين وعلى رأسهم القادة السياسيين أن يأتوا بهندسة حديثة لبنية دولتهم المستقبلية على أن تقدر على توفير إطار يسمح لتطور الأفراد والجماعات مع إبقاء عنصر المنافسة بين هؤلاء تحت سقف القانون والدستور، وبشكل يتماشى مع ميزات المجتمع والمتطلبات الخاصة بالواقع اللبناني. ثانيا، تكون العملية في الوقت نفسه مبنية على مبدأ الشراكة. فبدلا من اعتماد الفوقية في كل فصول الإدارة، يستحسن تصميم دولة تُشرك طاقات المجتمع وفعالياته وتصغي إليها وتستشيرها بتعاطي جدي من أجل دراسة وتحديد المصالح الخاصة بها وكيفية خدمتها، كما العمل في الوقت نفسه على إخضاعها للمصلحة العامة ولكن عبر أسلوب التحاور والمشاركة الديموقراطية، وذلك من أجل استرجاع ثقة المجتمع بدولته. فيساهم هذا الأسلوب في استقامة تدريجية لمنطق الدولة الجامعة المستشيرة، المنسقة، المنشطة والساهرة على خدمة الناس، وفي المقابل يزيد من حس المسؤولية والمواطنية عند أفراد وجماعات المجتمع.

من أجل ترجمة تلك المبادئ على الصعيد العملاني، يمكننا تقسيم التوصيات إلى شقين. الشق الأول مؤسساتي البعد أي أنه متعلق بتعزيز دور مؤسسات الدولة ولا سيما في مجالين محوريين: الجيش والقضاء وهما عنصران أساسيان في عملية إعادة بناء الدولة في لبنان. فتشكل المؤسسة العسكرية اليوم في لبنان رمزا للوحدة الوطنية (37)، فيفوح منها روحية العيش المشترك التي تحيا في أعضاءها فضلا لتركيبتها وآلياتها التنفيذية المعتمدة على التعارف المتبادل للعناصر المنتمين إلى كل الطوائف، وباتت تحظى على درجة عالية من الاحترام من المجتمع لإبقاءها على حياد الجدليات السياسية. فينبغي على صانعي دولة الغد أن يحافظوا على هذا النهج من السلوك بالتعاطي مع الجيش اللبناني. أما المؤسسة الأخرى التي نود الإشارة إليها وهي القضاء، فلا تحظى بالدرجة ذاتها من السمعة والتأييد مقارنة بالجيش اللبناني. لذا لا بد من العمل على ايجاد سبل تمكن القضاء باسترجاع دوره لا سيما في مسألة الحفاظ على حقوق الناس والحد من تجاوزات سلطة الدولة حين تحصل. فليس المطلوب هنا استبدال الفعاليات المتنوعة الأشكال التي ترعى مسار المصالحات وحل المشاكل بشكل فعال ما بين الأفراد أو المجموعات بجهاز قضائي يستعصي عليه النجاح في هذا المجال مهما اشتد العمل على تقويته وتحسينه، بقدر ما هو مطلوب النظر أولا (على سلم الأولويات) في كيفية إعادة رابط الثقة ما بين الدولة والمواطن. ومن هذا النظور، يمر عامل الثقة عبر جهاز قضائي فعال في دور يحمي فيه المواطن من الدولة وإدارته ويؤمن له حقوقه، ويقتضي ذلك بتقوية قبل كل شيء مقومات القضاء الإداري. لا يعني هذا الاقتراح أنه ينبغي تجاهل تعزيز وتحسين القضاء المدني أو القضاء الجنائي ولكن يحرز الفصل الإداري على المرتبة الأولى من حيث الأولويات، ذلك لغاية مصالحة المواطن مع دولته. فبدلا من اللجوء إلى مراجع سياسية للاحتماء ضد الدولة والقانون والوقوع في شبكة زبائنية وكمين المحسوبية الخانقة، يوفَّر للمواطن امكانية فعالة وجادة بطعن قرارات الدولة وإداراتها أمام قضاء إداري معزز وقادر. وهنا اقتراح عملاني يقتضي بإنشاء درجات قضائية إضافية إلى جانب مجلس شورى الدولة الذي يمثل اليوم الجهة الوحيدة لحل المنازعات بين المواطنين والإدارات. ولأن مجلس شورى الدولة غير قادر على استيعاب الكم الهائل من الدعاوى والشكاوى تؤسَّس حينئذٍ محاكم إدارية متخصصة حسب المجالات ومقسومة على درجات تكون مرتبطة بشكل الخلاف ومستوى تعقيده. فيترك لمجلس شورى الدولة القضايا الأصعب والأهم على أن تتفرغ المحاكم الإدارية الجديدة لدعم حقوق المواطن أمام محاولات الإدارات بتجاوز صلاحياتها. علاوة على ذلك، لا بد أن تؤخذ قرارات القضاء الإداري المُفعّل واجتهاداته في عين الاعتبار في عملية رسم الاستراتيجيات الإصلاحية الهادفة إلى تعديل القوانين الظالمة المتعلقة بالإدارة اللبنانية على أن تزاد توصيات المحاكم وفي مقدمتها مجلس شورى الدولة، في الخطط الإصلاحية الموضوعة من قبل الجهات السياسية والإدارية.

تتطلب تلك الخطوات جرأة كبيرة من القائمين على الدولة الحالية إذ أنه مطلوب منهم تقبل آلية قضائية مفعلة ومعززة سيتزايد من خلالها حجم التقييم لعملهم وحدة النظر في صحة الإجراءات والقرارات الإدارية المتخذة. وتشكل تلك أولى الخطوات لإعادة عملية بناء الدولة في لبنان على سكة مستقيمة بمعنى أن التغيير لا بد أن يبدأ من داخل بنيتها من أجل تغيير نظرة الموطنين إزاءها. ولو نجحت الدولة في تطابق القوانين (ولو اطرت إلى تعديلها) وأداءها في تطبيق تلك القوانين مع مصلحة الناس، فستتمكن من تأسيس ركيزة قوية من شأنها أن تلتحم بالنسيج الاجتماعي وتعزز الثقة فيما بينهما.

لإنجاح مشاريع إصلاحية من النوع الذي تم طرحه أعلاه فمن الضروري توافر دعم وإرادة القيادات السياسية والإدارية وهو العنوان الثاني للسبل بعدما استعرصنا أهمية تعزيز بعض المؤسسات الأساسية. فمن دون إرادة سياسية في التعهد لوقف التدخلات في السلطة القضائية والمجالات الإدارية كافة، ومن دون رؤية جريئة لمفهوم الدولة الجامعة، فما من امكانية المضي في هذا الاتجاه وستبقى المشاريع الإصلاحية فرعية النطاق وغير فعالة في جذب المواطن إلى كنف الدولة. وتتطلب هذه العملية انقطاعا جذريا من حيث سلوك وأداء القادة السياسيين مع تصرفات الماضي القريب من خلال تطوير منطق الخدمة والانفتاح والحس التربوي في اتجاه المجتمع. فعلى المواطن ولا سيما المواطن اللبناني المتمتع بخلفية فريدة كما تم شرحها أعلاه، أن يقتنع بدور دولته، أن يفهم معنى عملها وأن يتخلى عن تصوره لها كعائق يتعمد خلق مشاكل في حياته بدلا من حلها. ولتحقيق هذا الهدف، تقع المسؤولية بالدرجة الأولى على الزعامات السياسية وقادة الإدارات على أن يحددوا على أنفسهم هذا النهج من التعاطي مع الشأن العام.

فبدلا من اعتماد أسلوب الفرض أو التوهم في بناء دولة في سياق النموذج الجاكوبيني الذي يدعو إلى تكسير وتفكيك التقاليد الاجتماعية التي غالبا ما تنجح في حسم الخلافات وتلبية الحاجات كما تم عرضه أعلاه، تبدأ عملية بناء الدولة الجامعة في لبنان بالاستناد إلى طاقات المجتمع ثم تحريرها وإشراكها في استراتيجيات التنظيم والإدارة، ثم بتحييد القضاء ولا سيما الإداري منه عن التدخلات السياسية كما الحال مع الجيش اللبناني من أجل الاعتماد عليه في حل الخلافات بين مختلف قطاعات المجتمع ومكونات الدولة. فيوكّل القضاء بمهمة تحديد حدود الدولة وفي الوقت نفسه حدود المواطن في التعاطي مع الشؤون الإدارية حفاظا على المصلحة العامة. فلا يبقى تفسير مفهوم المصلحة العامة بيد الزعماء السياسيين وحدهم فحسب بل يضاف إلى جانبهم – ولو أمكن، فوقهم – لاعبا أساسيا آخرا هو القاضي، أحد المشرفين المحوريين على استنهاض دولة قانون في لبنان. ولكن دولة قانون لا تلغي البنية الاجتماعية اللبنانية ولا تعمل ضدها ولا ضد الطوائف التي تعكس الصورة التاريخية للبنان، بل تحافظ على مصلحة أعضاء المجتمع وتنسق بين طاقاتها وتستشيرها للكشف عن اهتماماتها وهمومها وتشجع قدراتها الإبداعية وتنشط حركتها عبر إشراكها ديموقراطيا في الآليتين التشريعية والتنفيذية على الصعيدين المركزي واللامركزي. وحين الخلاف، تترك كلمة الفصل للقاضي.

---------------------------

المراجع:

(1) على قناة الجزيرة في 16/1/2006
(2) العبارتان لجورج قرم: لبنان المعاصر، تاريخ ومجتمع (الطبعة الفرنسية، باريس، 2005، صفحة 33).
(3) Elizabeth Picard, L'Etat de discorde. Des Fondations aux guerres fratricides, Flammarion, Paris, 1988
(4) لتعميق هذه الفكرة، راجع سعد الدين ابراهيم (م): المجتمع والدولة في الوطن العربي (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996)
(5) راجع وضاح شرارة: حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيين (دار الحداثة، بيروت، 1980)
(6) أوصلت حجم التدخلات والمخططات الإقليمية والدولية على لبنان بعض المفكرين إلى تصنيف الحرب اللبنانية بأنها "حروب الآخرين"، راجع على سبيل المثال غسان تويني: حروب الآخرين (دار النهار، بيروت، 1993).
(7) للتعميق في العوامل التي أدت الى انهيار الدولة عام 1975، راجع فريد الخازن: تفكك أوصال الدولة في لبنان 1967-1976 (دار النهار، بيروت، 2002)؛ Michael Hudson, The Precarious Republic, Political Modernization in Lebanon (New York, Random House, 1968).
(8) مقتطف من البيان الوزاري لحكومة الرئيس سليم الحص التي تشكلت بموجب المرسوم رقم 2 تاريخ 25 تشرين الثاني 1989.
(9) راجع نزار حمزة: "Clan Conflicts, Hezbollah and the Lebanese State"
in Journal of Social, Political and Economic Studies, vol. 19, n°4, Winter 1994, pp. 433-446
(10) المرجع نفسه، صفحة 438.
(11) Joel Migdal, Strong Societies and Weak States, Princeton, Princeton University Press, 1988
(12) Edward Shils, "The Prospect for Lebanese Civility" in Leonard Binder (ed.), Politics in Lebanon, John Wiley and Sons, New York, 1966, p. 2
(13) للتعميق في فكرة الديموقراطية التوافقية، الملقبة أيضا بالنظام التوافقي راجع:
Cariscript, Paris, 1994 Antoine Messarra, Théorie générale du système politique libanais, Theodor Hanf, Antoine Messarra, et Hinrich Reinstrom, La société de concordance, approche comparative,
Actes du Symposium du Goethe Institut sur « la régulation démocratique des conflits dans les sociétés plurales », Beyrouth, Librairie orientale, 1986
(14) النهار في 2 كانون الأول 2006
(15) صدى البلد في 17 شباط 2006
(16) صدى البلد في 19 حزيران 2006
(17) في خطاب له على قناة المنار في 4 آب 2006
(18) في مقابلة على تلفزيون المستقبل في 21 كانون الثاني 2006
(19) النهار في 25 أيلول 2006
(20) في مقابلة مع صحيفة السفير في 5 أيلول 2006
(21) النهار في 25 أيلول 2006 وفي 20 تشرين الثاني 2006
(22) في مقابلة مع صحيفة صدى البلد في 4 كانون الأول 2006
(23) النهار في 25 أيلول 2006
(24) صدى البلد في 5 أيار 2006
(25) في خطاب له في مناسبة قداس حريصا في 24 أيلول 2006
(26) في خطاب له في 21 تشرين الثاني 2006، قبل تلقيه نبأ اغتيال الوزير الشاب الشهيد بيار الجميل.
(27) صدى البلد في 5 أيار 2006
(28) النهار في 17 كانون الثاني 2006
(29) صدى البلد في 23 كانون الثاني 2006
(30) النهار في 18 أب 2006
(31) صدى البلد في 17 شباط 2006
(32) صدى البلد في 5 حزيران 2006
(33) في مقابلة مع صحيفة الأخبار في 19 تشرين الأول 2006
(34) صدى البلد في 24 آب 2006
(35) مقابلة مع صحيفة L'Orient-Le Jour في 5 أيار 2006
(36) النهار في 26 تشرين الأول 2006
(37) انظر إلى الاستطلاع الذي أجراه مركزبيروت للأبحاث والمعلومات الذي يدل على نسبة %90.5 في تأييد الجيش اللبناني كـ"ضمان لحفظ الأمن في لبنان"، في الأخبار تاريخ 12 كانون الأول 2006

No comments:

Post a Comment